جــان جـاك روســو 1712 - 1778 م
" خُلق الإنسان حُراً..."
" خُلق الإنسان حُراً..."
) جان جاك روسو) طفولة مشردة في جنيف دون أسرة، طفولة عصامي مشبوب الانفعال ،متمرد اشتغل خادماً وتشرد كثيراً ..
ولد " روسو" عام 1712م، وماتت أمه عند ولادته يقول: " فقدت أمي حياتها بولادتي فبولادتي بدأ سوء حظّي ..".
بقى له والده - اسحق- كثير الخيال سريع التأثر يحب نفسه يميل للعاطفة أكثر من ميله للعقل.. نمّى الوالد في طفله حبّ الوطن لأنه وإن رأى أماكن كثيرة لكنه لم يرَ أجمل من وطنه..
علم ابنه القراءة واعتاد أن يجلس معه كلّ ليلة بعد العشاء للقراءة حتى منتصف الليل حيناً وحتى مطلع الفجر أحياناً...(1).
وبهذا اعتاد الطفل القراءة ،وصار يستعير الكتب من أقاربه ليقرأ، بينما والده يعمل في النهار كان ذلك قبل العاشرة من عمره وأثر في نفسه في هذه المرحلة (.بلوتارك ).
بعد قليل تزوج الوالد وأجبرته الحياة أن يترك ابنه بعد العاشرة بقليل، فاضطر هذا الأبن للتنقّل بين البطالة والتشّرد، فما إن يترك منزلاً كان يخدمه حتى ينتقل إلى آخر... وبعد سنوات صار يخدم سيدة ويقرأ معها كتب (فولتير ) ويسمع إليها إذا تحدثت وقد رغبت هذه السيدة أن يصبح - روسو- كاهناً بناءً على نصيحة أحد أقاربها الذي كان رأيه بالفتى -روسو- " أنه محدود الذكاء جاهل جداً لا يصلح إلاّ كاهناً في إحدى القرى...".فشلت محاولات السيدة وهرب الفتى من هذا الجو...
سافر(روسو) إلى باريس وعمره تسع عشرة سنة ومعه رسائل توصية إلى الكتاب الكبار ونزل بفندق للفقراء ،وعندما كان يتناول الطعام في بيت أحد الباريسيين سخر حتى الخدم من طريقته في تناول الطعام إذ عاش في بيئة ريفية فقيرة ...
في باريس تعرّف بـ(فولتير) و(مونتسكيو)و(ديدرو) ... وبينما كان روسو مشرداً ضائعاً في شوارع باريس كان فولتير يعيش في قصر يطل على نهر السين.. وفي إحدى المرات دعا ( فولتير ) المشهور( روسو) الفقير إلى أن يُؤويه في قصره.. ولكن روسو اعتبر هذه العروض نفاقاً ومداهنة.. ونشبت المعركة بين الرجلين، قال فولتير: " لو كان لأحطّ الحيوانات ولد ،لكان جان جاك روسو!!".
ردّ روسو: " إن المضحك فولتير واحد من أعضاء ديوان التفتيش لاهم لهم سوى إعدام الأبرياء..".
كان روسو يحتقر المال ويهاجم فولتير الذي ( تبرجز ) وابتعد عن المعذبين وقضاياهم.
ظلّ روسو يقرأ في الحدائق فترة طويلة من حياته وبدأت معرفته بـ (ديدرو) تتحول إلى صداقة فكلاهما فقير ،وكلاهما أديب، وبينهما تشابُه كبير في الأذواق، والميل إلى الحلم رغم قسوة الواقع والفقر.
أمضى روسو جزءاً كبيراً من حياته مريضاً ضعيف البنية نحيف الجسم يشكو الأرق كان كثير الفقر والألم دون أن يشكو، عاش حياةً لاحدَّ لتناقضها، جاع في طفولته وشبابه وعرف بنفسه ظلم الأقوياء للفقراء عانى الإضطهاد وعرفه عن قرب.. ومع ذلك صار روسو عظيماً .. وهنا نتذكر قول الناقد البلغاري الشهير (كارانفيلوف) حين يرى أنه من العجيب حقاً أن ينسكب كلَّ هذا الوحل على هذه الطفولة وعلى هذه الفتوة ولا تبقى أيّة لطخة مهما ضؤلت على روحه ... وأن -روسو- قد عبر وُحول الحياة دون أن يلطخ جناحي طائره المائي الصّغير ومثله (غوركي) الذي أمّضى سنوات طفولته في وحل الحياة وفي وحول ضيّقي الأفق دون أن يوسخ ريش صقره الصغير ( كتاب أبطال وطباع - كارانفيلوف ) كلا الرجلين قد صاغ من شقاء الحياة ووحولها إبداعاً يتلاءم مع عصره، ومُتطلبات المظلومين حوله.. فهذه الطفولة المعذّبة جعلت روسو- يربط بشكل مبكر بين فقدان الحرية وبين الملكية الخاصة فهو يقول: " ظهر الشرُّ في البشرية حين رسم أحدهم حدوداً حول أرضه وقال: هذا ملكي..." إن روسو يعتقد أن هذا التصرف هو اصل التفاوت بين البشر وبدءاً من هذه الفترة التاريخية استمر الإنسان يدفعه الطمع إلى أن يملك ويملك ونشأت الحروب .. وولد القانون الذي شرع ليدافع عن ملكية المالكين ،ويقف في الغالب مع الأغنياء ضد الفقراء، فإذا سرق الفقير شيئاً يسد به الرمق قالوا: إنه مجرم ولكن إذا عاش الغني يمتصّ دمَ العامل والفلاح عاش مستريحاً غير مُذنب يحترمه الجميع!!
ورأى روسو أن الحرية ليست فاكهة تنمو في كل طقس ومن ثمَّ فهي ليست في متناول الجميع " لذلك نذر الكثير من كتاباته للدفاع عن هذه الحرّية لدرجة أن جعل من الشعارات الهامة في كتابه " العقد الاجتماعي" القول: إن البشر يولدون أحراراً ويبقون أحراراً، ومتساوين في الحقوق واعتبر أن من يتنازل عن حريته يفقد صفته الإنسانية ويصبح عبداً والعبودية كمايفهمها " روّسو" هي للسيد والعبد معاً لأن الذي يستعبد إنساناً لا يستطيع أن يقول عن نفسه بأنه حرٌّ ..وكم من المصائب والمخاوف كان بالإمكان إنقاذ المجتمع منها لوأن رجلاً خلع أول سياجٍ أحاط بقطعة أرض، وصاح في جماعته: حذار من الإصغاء لهذا المغتصب ...وأنكم لهالكون ولو نسيتم ولو لمرة واحدة إن ثمرات الأرض إنما هي لنا جميعاً، أما الأرض نفسها، فليست مُلكاً لأحد وكما أن الكوارث تنشأ من ملكية البعض للأرض دون البعض الآخر كذلك فإن معظم مصائب البشرية تنشأ حين نعمل لإسعاد فرد واحد مقابل إتعاس وإفقار مئة فرد مقابله..
هذه الأفكار الجريئة الرائدة في زمنها كثرَّت الأعداء حول روسو - الذي حين سمع بموت لويس الخامس عشر عام 1774م قال: " يا إلهي ما أشد حزني !! فسئل: لماذا تحزن؟ فقال: لأنه كان يُقاسمني كراهية الشعب، أما الآن فيجب أن احتمل هذه الكراهية وحدي.." كان روسو مفكراً عقلانياً جريئاً وقف عامة الناس ضده وحملّوه كماحملّوا " فولتير " مسؤولية جميع الاضطرابات التي اجتاحت أوربا بعد ذلك .. حتى لقد جاء في أغنية ( غافروش ) الساخرة في رواية ( البؤساء) لفيكتور هيجو إنها غلطة ( فولتير) إنها غلطة ( روسو)..".
لم يصبح روسو عظيماً في تراث الإنسانية دون أن يقدم القربان الذي تستحقه العظمة إذ اشتراها بمهرٍ غالٍ من الفقر والتشرد والعمل المتواصل، ويظهر ذلك في البرنامج اليومي الذي وضعه لحياته في الأوقات القصيرة التي أتيح له فيها الاستقرار إذ كان لا يكف عن العمل والقراءة حتى كوّن نفسه بالمطالعة وعشق الطبيعة وتحسس ألام المظلومين ،وقراءة كلَّ ما استطاع من تراث القدماء والمحدثين، وإن استقراره لفترة قصيرة أثمر هذا الذي تركه من آثار، والكل يعرف أنه بقي حتى الأربعين من عمره فقيراً مشرداً ثم صمم أن يحمل القلم في يده ليرتفع كالسنديانة فوق النظام الملكي ويدعو للجمهورية والحرية ويقف بحزم ضد الملكية الخاصة التي يعتبرها منبع كلّ الشرور، واستمر بعد الأربعين يتقدم ويصنع نفسه بالفكر العقلاني والعمل والتصميم.
في عصر لويس الخامس عشر الذي بدأ مع بداية حُكمه 1715بلغت التناقضات الاجتماعية ذروتها، القليل يقضي حياته في رفاهية مفرطة والكثيرون من الشعب يموتون جوعاً وقد تجردوا من أبسط الحقوق الإنسانية، وصاروا تحت رحمة الحاكمين ..
في هذا العصر المضطرب كان فولتير يدعو إلى استنارة الفرد عن طريق تهذيب العقل وترقيته وهاجم كل الذين حالوا دون تنوير أذهان الشعب .
وفي هذا العصر المضطرب كان روسو تلميذ فولتير الذي سلك طريقاً مغايراً قد دعا إلى الثورة الاجتماعية التي وضع أُسسها في كتابه " العقد الاجتماعي".
فهم لويس الخامس عشر ما يحدث حوله من غليان فقال كلمته المشهورة " وبعدي الطوفان ".
طالبت السلطات السويسرية بإعدام كتاب روسو ( العقد الاجتماعي ) وحرقه فكان موقف فولتير رغم اختلافه مع تلميذه روسو مثار إعجاب لإنه كتب قائلاً: " لا أقر كلمة واحدة مما كتبت ولكن سأقف مدافعاً حتى الموت مؤيداً حقك في أن تقول ما تُريد ".
دروس في حياة " روسّو ":
تلقى روسو درساً عملياً على يد "كاهن" كان يرعاه... طلب روسو بعض المال من الكاهن، وكان قد رأى أن الناس يعطونه الصدقات حتّى يجمعها فقال الكاهن الذي أراد من هذه الحادثة درساً: " ... أنا مسؤول عنك ويجب أن لا أمسَّ نقوداً وُضعت أمانة في يدي ...". ثم منحه من ماله الخاص...
وبدأ نقاش بعد الدرس بين الكاهن والفتى حول سير العظماء ممّا أثر في حياة الشاب.
مرّ ( روسو) على صاحب كوخ وكان جائعاً فأطعمه خبزاً جافاً ولم يشبع .. وشعر صاحب الكوخ بجوع ضيفه الفتى وغاب قليلاً وأحضر قطعة خبز ومعها قطعة لحم وعجّة....أكل روسو وأراد أن يدفع الثمن،رفض الفلاح .. سأل روسو: لماذاتصّرفت بهذا الشكل ؟ أجاب الفلاح: نتظاهر بالفقر خوفاً من الضرائب الثقيلة..
تأثر روسو للحادثة وشعر بأن الظلم يخفي حقائق الناس ويشوههم، فهذا الفلاّح الذي كسب خبزه بعرق جبينه لم يستطع أن يظهر علىحقيقته، وعاش في خوف دائم من الظلم .. تنقل روسو بين أكواخ الفلاحين المتشابهة ..وهناك حادثة في طفولة " روسو" كانت درساً بالغ الأثر وتفصيل الحادثة أنّه اتَّهم بكسر اسنان مشط..احتج على هذا الاتهام ،لأنه لم يكسرها دافع عن نفسه بغير جدوى، وعومل كما يُعامل المذنب، فعوقب على ذنب لم يرتكبه ... فتألم من هذه العقوبة ولم ينس الحادثة وكتب عنها بعد ذلك بخمسين سنة وقال: " .... لو قدر لي أن أعيش مائة ألف سنة ستظل في نفسي لأني كنت ضحية مالم أفعله .. ولو رأيت ظالماً يعتدي على إنسان لعاقبت ذلك الظالم المعتدي في الحال، ولا أبالي بمايحدث لي، ولو كان الحكم عليَّ بالموت مائة مرَة..".
وهناك مُعلّم بارز في حياة " روسو" كان مرشده من المهد إلى اللحد وهو " بلوتارك" يقول روسو:" عندما كنتُ في السادسة وقع في يدي فحفظته .. فرافقني طول حياتي ...".
وكان فولتير ( أستاذه وخصمه اللدود في المستقبل) قد أغراه بالدرس أكثر من غيره من خلال ماكتبه في " رسائل فولتير الفلسفية" .. نعم أغراه بالدرس وأول مادفعه إلى الكتابة وذلك باعتراف " روسو" نفسه!!
العقد الاجتماعي ... ملامح:
بدأ روسو كتابه ( العقد الاجتماعي) بجملة ثائرة تقول: " خلق الانسان حراً وهو مستعبد في كل مكان، وليس لإنسان ما سلطان طبيعي على أخيّه الانسان،وإن تنازل المرء عن حريته يعْني تنازله عن رجولته، وهناك تناقض بين كلمة ( حق) وكلمة (عبد)..."
إن إنسانية الإنسان تنتفي عندما لا يمارس حريته، والسيادة لا يمكن أن تمارس بالإنابة فهي إما أن تمارس بالذات أو لا تمارس أصلاً وليس هناك طريق وسط.
يرى روسو أن الجوع انتحار، ومن المؤلم إلى حد القتل أن يرى الإنسان أطفاله يموتون جوعاً بجريمة الأغنياء.
والسعادة هي أن نجعل الثروة بيد أكبر عدد من أفراد الشعب، إذ هنا فقط نقضي على منتهى الفقر ومنتهى الغنى وهنا لايشتري الغني الفقير بماله،ولا يضطـر الفقير أن يبيع نفسه لسد حاجته وفقره ،ويصبح شيئاً من الأشياء لاوجود لكرامته الإنسانية ،وهذا هو مفهوم "الاغتراب " الذي كان روسو أول من استخدمه بهذا المعنى.
الحرية عنده هي الخضوع للقوانين، الشعب الحر يخضع ولا يُستعبد، له رؤساء لا أسياد، يخضع للقوانين لا للأفراد، ذلك أنّه بقوة القوانين لا يخضع للأفراد .
كثيرون اعتبروا روسو رائد العاصفة العظيم ومبدع حقبة جديدة، واعتبروه أكثر تأثيراً من فولتير هذا واحد من أساقفة (باريس) يقول في " عظة" له :
إن روسوقد ألحق ضرراً أكبر كثيراً مما ألحقه فولتير وأكثر من كل الانسكلوبيدين مجتمعين".
وعندما صدر كتابه " العقد الاجتماعي " عام 1762وبعده كتاب " إميل " منعت حكومتا فرنسا وجنيف تداول هذين الكتابين وطورد روسّو،لينتقل بين عدة أماكن ويسافر إلىانجلترا عام 1766 حيث غدا هناك " مواطن شرف "وعاد ليموت بعيداً عن باريس في منطقة ريفية جميلة وبعد انتصار الثورة الفرنسية حمله الثوار المنتصرون إلى مدافن العظماء في باريس بعد ستة عشر عاماً، قضاهامدفوناً في أحضان الطبيعة ،واحتفل بنقل رفاته احتفالاً عظيماً لأنهم كانوا يعتبرون كتابه ( العقد الاجتماعي إنجيل الحرية )....كمااعتبر كتابه " إميل " إنجيل التربية ..
صدر كتاب العقد الاجتماعي حين كان من الخطر أن يرفع رجل صوته ،لكن " روسو" لم يبال وطرح كل مايفكر فيه بروح قوي وأسلوب ثائر ولغة مؤثرة كتب عن حقوق الشعب وحقوق الفقراء، مخالفاًالسائد في عصره الذي يلخصه القول: " ... إذا كان الحكام كالذئاب وحب أن يكون الشعب كالغنم ...".
تأثر روسو في كتابه هذا بما كان يحدث في انجلترا وماكان يحدث في الماضي البعيد في عصر أفلاطون وسقراط وأرسطو..وأصبح كتاب "العقد الاجتماعي "إنجيل الثورة الفرنسية بعد وفاة روسو 1778 ففي سنة 1788م كان قادة الثورة يقرؤون العقد الاجتماعي في الشوارع ويهتفون له، وعنه قال نابليون: " لو لم يكن روسو ما حدثت الثورة الفرنسية " فروسو بذر بذور الثورة فيما كتب وشاركه في ذلك عّدوه اللدود " فولتير "، إذ لم يجرؤ على النقد الحر أحدٌ قبل الثورة الفرنسية إلاّ فولتير وروسو اللذين كانا من عشاق الحرية والصراحة في الرأي والقول، فكتب روسو يدافع عن الفقراء وينتصر للعامة تقوده العاطفة والوجدان الحي وقلبه الحساس وكتب فولتير يقوده عقله وذكاؤه النادر ،واطلاّعه الواسع، يعلي من شأن العقل والمواهب العقلية، مُطالباً بنقل السيطرة من رجال الكنيسة إلىرجال العقل والتفكير ..
كان فولتير لا يعطف علىالفقراء في حين كان روسو يتألم لهم ويدافع عن حقوقهم ..
وقد قيل: إن السر في عظمة فولتير إنه كان ينادي بما كان يفكر فيه الشعب .
والسر في عظمة روسو انه كان ينادي بمايشعر به الشعب ..
حين كان " فولتير" و" روسو " كان الصوت الحر والرأي الصريح .قال أحد قادة الجيش للملك " لويس السادس عشر ": " في أيام لويس الرابع عشر لم يجرؤ أحد أن يتكلم....وفي عصر لويس الخامس عشر كان الناس يتهامسون وفي عصر جلالتكم قد رفعواأصواتهم..."
صار روسو أحد عمالقة الفكر المؤثرين بكتابيه " العقد الاجتماعي " و" إميل ".
ولكن الناس لا ينسون كتابه الهام " الاعترافات " الذي لم يكن لكتابٍ من التأثير في الأدب الفرنسي على مدى قرن من الزمان مثلما كان لهذا الكتاب،فقد كان " الأمَّ" لكتب الاعترافات التي كتبها الرومانسيون الأول ،كما قد فتح هذا الكتاب في فن القصة القصيرة مقاصير الحياة الداخلية كمايقول" رومان رولان"