هـيـلــيـن كـــيـلــر ( 1880-1968)
"الإرادة ... انتصار على العاهات"
"الإرادة ... انتصار على العاهات"
بعد ولادتها بخمسة أشهر أُصيبت هيلين بالتهاب في الدماغ فقدت معه السمع والبصر معاً..
وبعد انقضاء أربعة عشر ربيعا ًمظلماً عليها قالت بكل ثقة: " سأذهب إلى جامعة هارفارد ذات يوم..".
" الجو دافئ" أول جملة نطقتها .. وعرفت معنى كلمة (حب) بأنها الخطوط غير المرئية بين روحها وأرواح الآخرين..
ترجم كتابها الأول ( قصة حياتي) إلى خمسين لغة ومنها لغتنا العربية..**
" هيلين كيلر " ليست وحدها مّمن قست عليهم الحياة في هذا العالم ولكنهامع قلّة من أمثالها استطاعت أن ترتفع فوق قسوة الحياة وشقّت الطريق الوعرة بمساعدة الأب والأم والمعلم ،وفي أحيان كثيرة لا يوجد واحدٌ من هؤلاء في حياة بعض هؤلاء العظماء.. ونتذكر هنا في تراثنا العربي " أبا العلاء المعري " و" بشار بن برد"، والدكتور طه حسين، والشاعر اليمني عبد الله البردوني ،وسواهم في تراثنا الحديث.
ولا أنسى أنه في أحد أيام عام 1965انعقدت ندوة فلسطين العالمية في جامعة القاهرة حين قام كفيف ليتحدث باسم الوفد الفلسطيني اقتاده أحدهم إلى منّصة الخطابة وشرع يقرأ بالإنجليزية بطريقة ( بريل) وكانت كلمته التي تترجم فورياً من أبلغ ما سمعه الحاضرون في تلك الندوة.
سمكةٌ .. خارج الماء
ولدت كيلر في ولاية ( ألاباما) الأمريكية عام 1880م ولادة طبيعية ولكنها أصيبت وهي في الشهر الخامس من عمرها بالتهاب في الدماغ مما جعلهاتفقد حاستي السمع والبصر معاً.. وبعد ذلك اكتشفت أنها لا تستطيع النطق ،وشيئاً فشيئاً أَحست أن الآخرين يتفاهمون بغير الاشارات التي كانت مُجبرة على استخدامها .. وظلت تشعر بالغربة حتى التحقت بمعهد الأطفال المكفوفين في ( بوسطن) وقالت بهذا الصدّد لقد سرّني جداً أن أجدهم يعرفون الأحرف
الهجائية اليدوية ..
وتحدثت معهم ( بلغتي الخاصة) المنتمية إلى العشوائية التي يتخبّط فيها أي أبكم مع العالم الخارجي..
بالنسبة ( لكيلر) لم يكن باختيارها أن تبدأ رحلة الحياة صمّاء بكماء ،كما لم يكن باختيارها أن تولد في مجتمع الفردية والمال والعنصرية والعنف ولكن والدها ذا القلب الكبير كان يروي لهاأفضل القصص ( قصصه) فهو أحد القصصيين المشهورين بتهجئتها عن طريق لمس يدها ولم يكن يسره شيء أكثر من أن تُعيد سرد القصة في لحظات مناسبة وكذلك والدتها التي كانت تقرأ لهاقصة فتاة صمّاء كفيفة وقالت (كيلر) عن والدتها: " ... حديث أمي كان لي كنزٌ كبير لن أبوح به للآخرين ولا أنسى أن بداية تحركي نحو عالم النور كان بفضلها .."
وفي معرض حديثها عن انتقالها إلى معهد المكفوفين ( ببوسطن ) قالت: كنت في بلدي سمكة على الشاطئ أما الآن فأنا أعيش في الماء لقد كان الأطفال في هذه المدرسة يضعون أيديهم فوق يدي حين أتحدث إليهم ،وكانوا يقرؤون الكتب بأصابعهم .. وكان التحاقي بهذا المعهد من الأحداث المهمة في حياتي ..
بعد أحد عشر درساً من المعلمة ( ساليفان) في المعهد ببوسطن أعلنت الطفلة ( كيلر ) التي بلغت العاشرة من عمرها أنّها ستتعلم كيف تتكلم بفمها،كمايتكلم غيرها من الناس وليس بأصابعها كشخص أبكم ،وغدت تقول لكن دون وضوح " لست الآن بكماء" .... وهنا بدأت رحلة النضال الشاقة لتتخلّصّ من عالم الظلام والصمت فعن تعلمها النطق قالت: " كنتُ أضع إحدى يدي فوق حنجرتي بينما أتحسس باليد الأخرى حركات شفتي وكانت آنستي (فوللر) قد درّبتّني على النطق بالطريقة التالية: " جعلتني أمرّر يدي برفق على شفتيها وأتحسسهما عندما تتحدث ... اشتقت أن أقلّدها..".
الجو دافئ ): أول جملة نطقتها..
تقول كيلر: " لا يمكن أن أصف اللحظة عندما نطقت أول جملة ( الجو دافئ)... لأني تحررت من سجن رهيب، والطريق على أمثالي وعرة، ولكن بإرادتي من جهة، وجهد آنستي (سوليفان) من جهة أخرى استطعتُ أن أتخطّى جميع العقبات، ولقد أدهشتني السهولة في الكلام بالنسبة إلى التهجئة بالأصابع .. في البداية لم أكن أفهم شيئاً إلاّ إذا لمسته .. ولكن آنستي تهّجت لي مرات ومرات كلمة ( فكّري ) وقد عرفت بعد ذلك أن هذه الكلمة تعبر عما يدور في الرأس وعرفت أن هناك كلمات تدل على الأفكار مثلما هناك كلمات تدل على الأشياء ..
إذن هناك كلمات لايمكن لمسها ،وعرفت معنى كلمة (حب) بمساعدة الاكتشاف الجديد وعرفت - أنه أي الحب - الخطوط غيرالمرئية بين روحي وأرواح الآخرين وكشفت بهاء لحظات التواصل مع الإنسان.
ميلاد الروح
تعتبر ( هيلين كيلر) يوم لقائها بمعلمتها في (3) آذار (مارس)من عام 1887م تعتبره عيد ميلاد روحها إذ بدأت على يدي هذه المعلمة تقرن الكلمة بالفعل، والفعل بالكلمة وعرفت منها أن لكل شيء اسماً وعليها لذلك أن تتعلّم الأسماء ...
تقول عن معلمتها " لم تكن تضايقني بالأسئلة إنما تُريد أن استوعب ما أقدر عليه ... لا ماتريدني هي أن أحفظهُ..."
لقد وهبتني الآنسة ( سوليفان) الشجاعة وحالت دون أن أتوقف عن محاولات الكتابة، ... في أكثر من حادثة كان بإمكان واحدة منهاأن تغير مجرى حياتي... لقد أيقظت المعلمةُ روح التلميذة وعلّمتها القراءة بلغة الأصابع في حوالي السابعة من عمرها.. أول ما تهجت لي كلمة( دُمْية) ثم قدّمت لي قطعاً من الكرتون عليها حروف مطبوعة بشكل نافر، عرفت أن لكل كلمة مطبوعة معنى.. وقادها الكرتون النافر إلى الكتاب المطبوع " وبدأت أبحث في كتاب المبتدئين عن الكلمات التي أعرفها .. وهكذا بدأت القراءة عندما أوشكت المعلمة على الموت، قال بعضهم يريد تخفيف بعض ألمها :" شدّي حيلك فإن هيلين لا يمكن أن تمضي بدونك.." .... المعلمّة أجابت والأسى يجتاح كيانها: " إن ذلك يعني أنّني فشلت"، لقد كان هدف هذه المعلّمة أن تحرر هيلين .. تحررها حتى منها،حتى من الحاجة إليها..وبعد ذلك تذكرت عملها الدؤوب وشعرت أن التلميذة لن تفشل .. وصدقت نبوءة المعلمة حين قالت التلميذة بعد ذلك: " قد يظن الناس أن المعلمة تركتني ..لا إنها لم تتركني فما زالت إلى جواري في كل حين .. إن العجب يملؤني وأنا أفكر بفارق الظلمة والنور في حياتي قبل مجيئها وبعده ،إذ الحق أقول: إن عقل معلمتي وروحها الممتازين ثم تفّهمها السريع لي وحكمتها المحبّبة هي التي جعلت أولى سنوات تعلّمي جميلة للغاية،كانت هذه المعلمة تؤمن أن عقل الطفل يشبه جدولاً صغيراً بحاجة إلى التغذية كي يتوسّع ويتحول إلى نهر عميق ..إن بإمكان أي معلم أن يأخذ طفلاً إلى غرفة التعليم ولكن ليس بمقدور أي معلم أن يجعله يتعلّم، فالطفل لن يقبل على التعلّم إلاّ إذا كان مسروراً ..
ظلت المعلمة ترافق تلميذتها (هيلين) لمدة خمس عشرة سنة ترافقهافي الصف وتنقل لها المحاضرات والدروس عن طريق لمس اليدين وكذلك الأفلام السينمائية والمسرحيات .ظلت المعلمة كذلك إلى أن وافتها المنيّة عام 1936م.
تقول ( كيلر) عن نفسها: " أتيت إلى هذا العالم وتفتحت عيناي على النور وانتصرت كما ينتصر أول طفل في العائلة وعشت أنعم بحواسي ربيعاً قصيراً واحداً تملؤه أغاني الطيور ،وصيفاً واحداً سخيّاً بالفاكهة والورود، وخريفاً ما أجمل لونه الذهبي ،ثم جاء عام 1882م ليغلق عيني وأذني ويغرقني في حالة من الغيبوبة .. لا أتذكر متى اكتشفت أننّي أختلف عن الآخرين..".
كان على كيلر أن تقوم بأداء مهمتين معاً علىامتداد ثمانية عشر عاماً، مهمة الانتصار على عاهاتها ومهمة ارتشاف العلم وتأصلت في نفسها فكرة الالتحاق بالجامعة تقول: " دفعني إلى ذلك شوقي للسباق مع الفتيات المبصرات والسامعات"وفاجأت أصدقاءها في مدرسة (كامبردج) للبنات "سأذهب للجامعة ذات يوم " وتحققت أحلامها الواحد تلوالآخر فمن معهد ( بوسطن) إلىمدرسة الصم ( بنيويورك) إلىمدرسة ( كامبردج) للبنات إلىجامعة (كامبردج) في(هارفارد) وكان ذلك في خريف عام 1900م تقول: " كانت الخطّة أن تكون معي مدرستّي لتحضر الدروس ثم تلقنني إيّاها وكانت طريقتي الوحيدة للسماع هي قراءة الشفاه بيدي، فالشخص الذي يقرأ لي أو يتكلم معي يتهجّى بيديه وهو يستخدم الأحرف الهجائية اليدوية، يتهجّى بيدٍ واحدة فقط وأنا أضع يدي برفق فوق يد المتكلّم ووضع اليد هذا يسّهل الإحساس كما تسهل الرؤية فأنالا أتحسّس كل حرف بأطول مما تنظر أنت كل حرف بمفرده عندما تقرأ ..ومع الزمن تحولت من قراءة كتب الأطفال إلى قراءة الكتّاب العظام وعرفت عن طريق الكتب كيف أن الإنسان عن طريق كفاحه بالفكر قد تقدم كثيراً..
الإرادة أولاً.
حين صممت ( كيلر) أن تدخل الجامعة كانت تمتلك قوةً في داخلها أقوى من صلوات سواها من المعوقين والمقربيّن وأعمق من الشّك الذي ينتابها بين الحين والآخر - كانت تلك القوة تلح عليها لأن.تختبر مقدرتها بالمعيار نفسه الذي يستخدمه من يملك حاستي البصر والسمع .. ولأنهاكانت تؤمن أن تقدم العالم نحوالأجمل مسكون بأرواح العظماء الذين قهروا باراداتهم كل عوامل الإحباط واليأس .
وتخرجت من الجامعة عام 1904م بدرجة ممتازة وألفت كتابها الأول ( قصة حياتي) الذي كان درساً في الإرادة للإنسان في كل مكان ،وتُرجم إلى خمسين لغة منها اللغة العربية، وألفت كتابها الثاني ( عالمي الخاص) عام 1908م وأعقبتهما بكتابيها ( السلام عند المساء) عام 1932و(ليكن لنا إيمان) عام 1941
إن " كيلر" كانت تتقن الكتابة بأحرف (بريل) النافرة وتستخدم ألة طبع خاصة، ويروى أنها نادراً ماكانت ترتكب أخطاء طباعية لقد كانت متمكنة من اللغة حاضرة الذهن دائماً.
الحضارة عند كيلر
قامت كيلر بجولة في معظم أنحاء العالم لتدفع الأمل إلىنفوس ذوي العاهات المختلفة ومشوهي الحروب، وكانت تؤمن أن السلام يبقى حلماً مادامت هناك نفس واحدة تحيا في عزلة الظلام ،ولا شك أنها كانت بذلك تبيّن جرائم الحروب الامبريالية، التي تترك كثيراً من البشر سجناء هذه العزلة وكانت تؤمن أن الحضارة لم تَعُد مسألة إقليمية ..
إن عملها من أجل ذوي العاهات هو مادعته بـ( عمل الحياة) وقد مارسته طوال حياتها الفاعلة ،لأنها كانت تجهز نفسها للقيام به منذ طفولتها ،واستمرت تقوم بهذه الرسالة إلى أن وافتها المنية في حزيران ( يونيه) من عام 1968م وخلفت وراءهامسيرة حياة أشبه بالمعجزة.. وما كانت تزور بلداً إلاّ منحها جائزة أو وساماً أو لقباً لقد كانت ( كيلر) وستبقى مثلاً حياً ورائعاً لإرادة الخروج من ظلمات اليأس حتى لمن يسمعون ويبصرون ..