ابن خلدون ( 1332 - 1406 م )
قضايا معاصرة في مقدمته
ابن خلدون أحد العباقرة الأفذاذ الذين فتحوا الطريق الجديدة في عالم الفكر، في علم الاجتماع واتباع المنهج العقلاني في البحث .. وكانت موضوعيته في البحث أحد أسباب خلوده حيث لاحظ قلة الأحداث الصحيحة التي تحتويها غالبية المؤلفات التاريخية وخلص إلى القول: بعد هذا الذي لاحظه بأن أسباب الانحلال والتردي تنشأ عن: " التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال من الإعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّعٌ لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص ...))
ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً: الثقة بالناقلين ومنها توهم الصدق وهو كثير ... ومنهاالذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لايعرف القصد بماعاين أو سمع، وينقل الخبر على مافي ظنّه وتخمينه،فيقع في الكذب .. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع .. ومنها تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمديح وتحسين الأحوال وإشاعةالذكر (1) "
ابن خلدون والمنهج العقلاني
من عناصر الموضوعية في تفكير ابن خلدون ،اعتماده العقل وابتعاده عن الخرافات والأساطير ،يقول: " لأن الأخبار إذا اعتد فيها مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب ،فرّبما لم يؤمن فيها من العثور، وزلة القدم والحيد عن جادة الصدق (2).
كما نراه يعبر عن حركة التاريخ لأن العناصر المكونّه للحياة الاجتماعية عنده ليست ساكنة بل هي في حركة دائمة يقول في المقدمة جـ1 ص 44 :الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل العصور ومرور الأيام ومن الغلط الخفي في التاريخ " وهوداء دوي وشديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلايكاد يتفطّن له إلاّ الآحاد من أهل الخليقة ... وذلك لأن أحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف علىالأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال "
وقد كان ابن خلدون أحد هؤلاء القلائل الذي أشاروا إلى هذه الحركة للتاريخ في وقت مبكر .
النزعة العلمية عند ابن خلدون:
نلمح أسس الجدلية عند ابن خلدون حين يتحدث عن أعمارالدول فيرى أن عمر الدولة يشبه عمر الشخص فهو ينتقل من سنّ التزيد الى سن الرجوع وهذه الحوادث طبيعية ولا شيء يمكنه منعها.
وحين يُبين أثر وسائل الإنتاج في النواحي الإنسانية في الأفراد يقول: " إن خلق الإنسان يرجع إلى العُرف والعادات لا إلى المناخ والمزاج وأن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش (4) .
في هذا النصّ نرى أن تكوين الانسان الاجتماعي لا يخلق معه بل تكوَّنه العادات الاجتماعية والعُرف القائم .. كما يقرر أن اختلاف أحوال الناس يعود إلى طريقتهم في الإنتاج.
وبذلك سبق ابن خلدون غيره حين ربط بين علم الاجتماع والاقتصاد في كتابه ( المبتدأ والخبر ) أثناء الحديث عن علم الاجتماع الذي سمَّاه بـ ( علم العمران ) معتمداً أسس الشرح والتحليل وتعليل الحوادث مدركاً ارتباط علم الاجتماع بعلم الاقتصاد وذلك في القرن الرابع عشر في الوقت الذي أشار فيه بعض العلماء إلى هذه الحقيقة في القرن الثامن عشر، وقد أقام ابن خلدون في مقدمته وزناً للضرورة الاقتصادية حين عبر عنها بأن المكسب والمعاش والصنائع دعامة من دعائم المجتمع، وحين عبر أن الظواهر الاجتماعية في العالم لا تسير حسب الأهواء والمصادفات ولا وفق إرادة الأفراد، بل وفق قوانين مطردة ثابتة لا تقل في ثباتها عن قوانين الظواهر الأخرى ... وانطلق يدرس هذه الظواهر في حال ثباتها أي في الحالة التي تكون عليها في زمان ومكان معينين ويدرسها في الوقت نفسه من حيث تطورها، والنواميس التي تخضع لها في هذاالتطور واستخدم في أبحاثه القواعد التالية: الملاحظة والتجربة ،التفسير والتحليل ، المقارنة والقياس - ودراسة الظواهر وعلم العمران ولقد استخدم ابن خلدون علم العمران بمعنى علم الاجتماع قال: " إن الكلام في هذا العلم مستحدث الصنّعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص (5) .. ولعمري لم أقف علىالكلام في منحاه لأحد من الخليقة ولعل من يأتي بعدنا يغوص في مسائله أكثر والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل ... (6)
ابن خلدون .. والتقدم :
يتجدد اهتمامنا بابن خلدون بقدر حاجتنا إلىالحرية بمعناها الاجتماعي الواسع، وبقدر حاجتنا إلىالتقدم .. لما في كتاباته من دفاع مجيد عن التقدم والحرية لأن الظلم عنده .." مؤذن بانقطاع النوع وهذا يؤدي إلى تخريب العمران " (7)
كذلك حارب ابن خلدون العرقية التي تفرّق فتجعل الشرق شرقاً بفكره وحضارته، وتجعل الغرب غرباً بفكره وحضارته أيضاً وذلك حين يكتب أن الإنسان يتغير بتغير الظروف حوله وليس هناك تخلف دائم أو تقدم دائم، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث..
وحين تحدث عن الاضطهاد نفى أن يكون نتيجة لطبيعة ثابتة في البشر وإنما الظروف الاجتماعية هي التي تؤدي إليه
تراه يقول: " إن الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشرّ بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة " المقدمة جـ ص 259 " .
وفي رأيه أن الظلم نتيجة استبداد أهل القدرة والسلطان ج1 ص 97 والجهل غير بعيد عن الظلم عند ابن خلدون، لأن مرمى الجهل بين الأنام وبيل، والحق لا يُقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه " (
وقد أعجب ابن خلدون بالتاريخ لأنه علم من العلوم وليس من أهدافه أن يهز المشاعر أو يسحر الألباب أو يعظ أو يقنع الحكومات أو يخدمها .. ولم يكن التاريخ عنده لوناً أدبياً كما يقول ( أيف لاكوست ) لذلك التزم الصراحة في أحكامه والإعراض عن قبول توسلات الأعيان وكبار رجال البلاط الذين كانوا قريبين منه، ومن المؤكد أنه فعل ذلك شغفاً بالعدالة لا رغبةً في التظاهر بالطرافة كما يعبّر الدكتور طه حسين في ص (18) من كتابه ( فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ) .
إن إعجابه بالتاريخ كعلم جعله واقعياً بعيداً عن الأسلوب الرومانسي أي أن عواطفه لم تتحكم بكتاباته، ولم يشغله أن يكون أديباً مُنشئاَ بقدر ما كان يشغله أن يكتب ليثبت وقائع .
ابن خلدون والاقتصاد:
تحدث ابن خلدون عن الزراعة وقد سماها ( الفلاحة ) واعتبرها مهنة المعذبين حين قال: " الفلاحة من معاش المستضعفين .." ولعله لمس الظلم الاجتماعي الواقع على الفلاحين حيث لم يجد فلاحاً واحداً من المترفين أو من أهل الحضر ..
وتحدث كذلك عن التجارة وعرّفها بأنها (محاولة الكسب بتنميةالمال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء....) كما اشار إلى الاحتكار والاستغلال حين قال: " إن البعض يختزن السلعة ويتحيّن بها حوالة السوق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه ..." .
كما تحدث ببصيرته النافذة عن تراكم رأس المال وإن كان الربح قليلاً لأن المال كما يقول ابن خلدون " إن كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثيرٌ ..." وعن علاقة المال بالسلطة أشار إلى أنّه لابد للمال من جاهٍ يتدرّع به فيوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه .
وعن قانون العرض والطلب يقول: " إن التاجر البصير لاينقل من السلّع إلا ما تعّم الحاجة إليه ... " .
ويتحدث عن الغلاء قائلاً: " إذا قلّت السلعة أو عزّت غلت أثمانها وإذا كثرت رخصت أثمانها .." .
وحين يتحدث عن الصناعة يرى " أنها ملكة في أمر علمي فكري ولأنها عملية فهي محسوسة، ونقلها بالعمل أوجب لها وأكمل، لأن المباشرة كما يقول ابن خلدون أو الخبرة العملية كما نقول اليوم في الصناعة أتم فائدة " ... وقد عـرّف الصناعة بأنها ملكة، ويقول عن الملكة أنها صنعة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكراره مرّة بعد مرّة حتى ترسخ صورته.."، نلمح إيمانه بأهمية الصناعة كما نلمح أهمية فضل التعليم الفني في الصناعة كذلك، كما يوضح لنا أن تقدم الصناعة يكون بتكرار العمل فيها ويرى كذلك أن الصناعة ترسخ في البلد برسوخ الحضارة فيه، وطول أمدها، وتحول الصناعة إلى عادة ترسخ بكثرة التكرار كما يقرر أن الاستقرار ضمان لتقدم الصناعة، وأن البلدان إذا قاربت الخراب انتقصت فيها البضائع وتكبر أهمية الصناعة بقدر أهمية السلعة التي تنتجها ....
ضد العنصرية
فندّ ابن خلدون بأسلوبه العلمي الخرافات حول سواد اللون عند بعض الناس، محاربا من خلال ذلك العنصرية التي تقوم على أساس اللون حين يقول: " توهم بعض النسابين ان السودان (جمع أسود) هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وجعل الله الرق في عقبه .. وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص..." .
إن هذه الخرافات يقول ابن خلدون وردت في " التوراة " حيث جاء فيها .." إن دعاء نوح على ابنه حام بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير " ولم تذكر التوراة لون السواد .
دحض هذه الخرافات بأسلوبه العلمي الذي قام على التجربة والملاحظة والاستقراء، يقول: " إن القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد، وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوان ..." ... جاء كلامه هذا في معرض حديثه في مقدمته عن أثر البيئة والمناخ في السكان وتوزعهم ونمط حياتهم جاء في بعض ماقال : " اعلم أنه يتبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم، أن شكل الأرض كروي، وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها طافيه عليه، فانحسر الماء عن بعض جوانبها لماأراد الله تكوين الحيوانات ،وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها، ثم إن هذا المُنكشف من الأرض فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه، والخالي من جهة الجنوب أكثر من جهة الشمال .
وكان " الجاحظ " قد اشار إلى أثر البيئة في الكائنات التي تعيش فيها منذ القرن الثالث الهجري - قبل ابن خلدون بحوالي خمسة قرون في كتابه الشهير " الحيوان " - فعلى سبيل المثال نراه يقول:
" وقد نرى ( حرّة بني سليم ) وما اشتملت عليه من إنسان وسبع وبهيمة وطائر وحشرة كلها سوداء، ونرى جراد البقول والرياحين خضراً وديدانها خضراً ..."
" قيمة العمل " تحدث عنها ابن خلدون في وقت مبكر وانتقد بشكل واضح تسخير الإنسان لأن " العمل مصدر معاشه الوحيد "، يقول: " ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تسخير الرعايا بغير حق ..."
ويوضح هذه القضية - اغتصاب العمل والاستغلال - أكثر حين يقول: " فإذا كلفّوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم، بطل كسبهم واغتصبوا قيمة أعمالهم، فدخل عليهم الضرر " ،لأن العمل - كما يرى ابن خلدون بحق - هو مصدر رزق الإنسان وتغّيره، يقول " وأعمالهم كلّها متحولاّت ومكاسب لهم بل لامكاسب لهم سواها " .
اكتشف الغرب ابن خلدون بدهشة وإعجاب لأنه سبق كل المنظرين السياسيين الغربيين ،سبق ميكافيلي، وميكو، ومونتسكيو، وسميث،وأوغست كنت بعدة قرون .
ومن الدراسات الهامة في هذا المجال دراسة المستشرق الإيطالي " استيفانو كلوزيو " المقارنة التي كتبها أواخر القرن التاسع عشر، قارن فيها بين شخصين: ابن خلدون - وميكافيلي ،تحت عنوان: " مقدمة لدراسة ابن خلدون " تحدث فيها عن أوجه الشبه والاختلاف بين الفيلسوفين ،ووصل إلى اعتبار ابن خلدون رائد علم جديد هو " علم النقد التاريخي " الذي سبق فيه بقرون عديدة أشهر فلاسفة الأوربيين، الذين شغلهم التاريخ ونقده والسياسة وعلومها .
ويرى هذا المستشرق أن ابن خلدون تحدث في قضايا كثيرة سبق بها الغربيين مثل حديثه عن مذهب الجبر الاجتماعي وحديثه عن " وظيفة الدولة ومفاسدها " والسلطات السياسية وطبقات الاجتماع وكذلك وجد عند ابن خلدون نظرية في "الملاكة وتقسيم الأموال " كما سبق الغربيين في حديثه عن المبدأ الجديد، " لكل بقدر حاجته " ويخلص هذا المستشرق إلى أن آراء ابن خلدون في كيان الجماعات الإنسانية في كيانها المركب - تجعله في أسمى مراتب الفلاسفة المؤرخين وأن ما يعزوه من شأن كبير إلى العمل والملاكة والأجرة يجعله سلفاً وإماماً لاقتصادّيي هذا العصر .
ظهرت دراسة المستشرق الايطالي ( مقدمة لدراسة ابن خلدون ) في اللغة العربية في / 5 (مايو) أيار عام 1925 / على صفحات اسبوعية ( الميزان ) الثقافية التي أسسها في دمشق الناقد المترجم الفلسطيني " أحمد شاكر الكرمي " الأخ الأكبر للشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى ) والأبن البكر للشيخ سعيد الكرمي رئيس المجمع العلمي في دمشق .
ترجم الدراسة الأديب والكاتب "عمر فاخوري " .............لتكون في متناول القارئ العربي والباحث المتتبع للفكر الخلدوني (9) .
ابن خلدون : معالم حياة
ولد عام 1332 في تونس وتوفي في القاهرة عام 1406 - يكون قد عاش (74) أربعة وسبعين عاماً تقلب خلالها بين المناصب الأدبية والسياسية والقضائية . بدأ كاتباً عند سلطان تونس ..وانتهىإلى منصب قاضي قضاة المالكية في مصر ..
امتدت حياته الفاعلة لأكثر من خمسين عاماً ،إذ دخل معترك الحياة قبل العشرين،وقام بمهمة سياسية خطيرة عند السبعين ....
أربعة أعوام امتدت من 1375- 1378، اعتزل فيها الحياة العامة وانزوى في " قلعة ابن سلامة " ليبدع أثره الخالد - المقدمة التي ضمنت له الخلود بين أعظم رجال الفكر في العالم، كتب مقدمته هذه عام 1377 بعد أن وصل منتصف العقد الخامس من عمره .. وقد شاهد وعاش تجارب كانت من العوامل التي وجهته ليكتب هذه المقدمة .
بعد أن كتب كتابه الخالد - المقدمة في التاريخ، رحل إلى مصر وبقي فيها إلى آخر حياته ...
تولى سفارة مصر إلى سورية - دمشق - وحصل اللقاء الشهير بين الفيلسوف العربي، والفاتح المغولي تيمورلنك عام 1401م .
لم ينحصر نشاط هذا العلاّمة في ( تونس ) مسقط رأسه ومصر مثوى رفاته،بل شمل معظم أقطار الوطن العربي ذهب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وزار المقدسات في القدس العربية واشترك في الدّفاع عن دمشق عندما غزاها " تيمورلنك " عام 1401م .
ولعل هذاما دعا " فيليب حتّي " إلى القول في كتابه " مختصر تاريخ العرب ": لقد كان ابن خلدون أكبر فيلسوف ومؤرخ أخرجه الإسلام كما كان أحد أعاظم الفلاسفة والمؤرخين في كل العصور " ..
تميز ابن خلدون بأسلوبه العلمي، لم يكتب كأديب وإنما كتب ليثبت وقائع أو معلومات أو فشاهدات .. إضافة إلى أن كتاباته في موضوع لم يسبق إليه،فرضت عليه أن يوجد كلمات جديدة وأن يستعمل كلماتٍ في معانٍ ليست معروفة أو متداولة وعلمية الأسلوب والاتجاه لم تمنع ابن خلدون من الاشارة يقدمها على شكل نصيحة حول أهم الكتب في التراث العربي حين يقول: " .... سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين هي: أدب الكاتب لابن قتيبة ،وكتاب " الكامل " للمبرد، وكتاب " البيان والتيين " للجاحظ، وكتاب " النوادر " لأبي علي القالي وماسوى هذه الأربعة، فتبع لها وفروع عنها " المقدمة ص 353، طبعة بيروت .
هذا قليلٌ مماقدمه ابن خلدون للحضارة الإنسانية وقد اعترف بفضله هذا كثيرون يقول (إيف لاكوست)، إن ابن خلدون لو وضع مع معاصره (فروسار) في كفتي ميزان لشالت كفة الأخير ولجاءت الموازنة في غير صالح الفكر الغربي على كل حال .
وقال (جان مارسيه): " إن مقدمة ابن خلدون هي أحد المؤلفات الأكثر ضرورة والأكثر إثارة من بين المؤلفات التي قيّض للعقل البشري إنتاجها ".
وقال (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ): إن فلسفة التاريخ التي تخيلّها (ابن خلدون) ثم بسطها في كتبه بدون شك أعظم إنتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر وفي أي زمن .."
هذا بعض ما قدمه ابن خلدون الذي أثار بمقدمته الشهيرة اهتمام عدد كبير من العلماء والمفكرين العرب والأجانب، والذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي قرن التحول والانتقال إذا عاش من عام 1332 إلى عام -1406م.
وإذا وصلنا إلى مرحلة تؤهلنا لاستيعاب هذا المؤرخ الفيلسوف العظيم فسوف نجد في مقدمته الكثير من القضايا التي تشغلنا في وقتنا هذا، وتعمل علىتحرير العقول وإيقاظ بذور الإبداع.
قضايا معاصرة في مقدمته
ابن خلدون أحد العباقرة الأفذاذ الذين فتحوا الطريق الجديدة في عالم الفكر، في علم الاجتماع واتباع المنهج العقلاني في البحث .. وكانت موضوعيته في البحث أحد أسباب خلوده حيث لاحظ قلة الأحداث الصحيحة التي تحتويها غالبية المؤلفات التاريخية وخلص إلى القول: بعد هذا الذي لاحظه بأن أسباب الانحلال والتردي تنشأ عن: " التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال من الإعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّعٌ لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة وكان ذلك الميل والتشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص ...))
ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً: الثقة بالناقلين ومنها توهم الصدق وهو كثير ... ومنهاالذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لايعرف القصد بماعاين أو سمع، وينقل الخبر على مافي ظنّه وتخمينه،فيقع في الكذب .. ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع .. ومنها تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء والمديح وتحسين الأحوال وإشاعةالذكر (1) "
ابن خلدون والمنهج العقلاني
من عناصر الموضوعية في تفكير ابن خلدون ،اعتماده العقل وابتعاده عن الخرافات والأساطير ،يقول: " لأن الأخبار إذا اعتد فيها مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب ،فرّبما لم يؤمن فيها من العثور، وزلة القدم والحيد عن جادة الصدق (2).
كما نراه يعبر عن حركة التاريخ لأن العناصر المكونّه للحياة الاجتماعية عنده ليست ساكنة بل هي في حركة دائمة يقول في المقدمة جـ1 ص 44 :الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل العصور ومرور الأيام ومن الغلط الخفي في التاريخ " وهوداء دوي وشديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلايكاد يتفطّن له إلاّ الآحاد من أهل الخليقة ... وذلك لأن أحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، وإنما هو اختلاف علىالأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال "
وقد كان ابن خلدون أحد هؤلاء القلائل الذي أشاروا إلى هذه الحركة للتاريخ في وقت مبكر .
النزعة العلمية عند ابن خلدون:
نلمح أسس الجدلية عند ابن خلدون حين يتحدث عن أعمارالدول فيرى أن عمر الدولة يشبه عمر الشخص فهو ينتقل من سنّ التزيد الى سن الرجوع وهذه الحوادث طبيعية ولا شيء يمكنه منعها.
وحين يُبين أثر وسائل الإنتاج في النواحي الإنسانية في الأفراد يقول: " إن خلق الإنسان يرجع إلى العُرف والعادات لا إلى المناخ والمزاج وأن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش (4) .
في هذا النصّ نرى أن تكوين الانسان الاجتماعي لا يخلق معه بل تكوَّنه العادات الاجتماعية والعُرف القائم .. كما يقرر أن اختلاف أحوال الناس يعود إلى طريقتهم في الإنتاج.
وبذلك سبق ابن خلدون غيره حين ربط بين علم الاجتماع والاقتصاد في كتابه ( المبتدأ والخبر ) أثناء الحديث عن علم الاجتماع الذي سمَّاه بـ ( علم العمران ) معتمداً أسس الشرح والتحليل وتعليل الحوادث مدركاً ارتباط علم الاجتماع بعلم الاقتصاد وذلك في القرن الرابع عشر في الوقت الذي أشار فيه بعض العلماء إلى هذه الحقيقة في القرن الثامن عشر، وقد أقام ابن خلدون في مقدمته وزناً للضرورة الاقتصادية حين عبر عنها بأن المكسب والمعاش والصنائع دعامة من دعائم المجتمع، وحين عبر أن الظواهر الاجتماعية في العالم لا تسير حسب الأهواء والمصادفات ولا وفق إرادة الأفراد، بل وفق قوانين مطردة ثابتة لا تقل في ثباتها عن قوانين الظواهر الأخرى ... وانطلق يدرس هذه الظواهر في حال ثباتها أي في الحالة التي تكون عليها في زمان ومكان معينين ويدرسها في الوقت نفسه من حيث تطورها، والنواميس التي تخضع لها في هذاالتطور واستخدم في أبحاثه القواعد التالية: الملاحظة والتجربة ،التفسير والتحليل ، المقارنة والقياس - ودراسة الظواهر وعلم العمران ولقد استخدم ابن خلدون علم العمران بمعنى علم الاجتماع قال: " إن الكلام في هذا العلم مستحدث الصنّعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص (5) .. ولعمري لم أقف علىالكلام في منحاه لأحد من الخليقة ولعل من يأتي بعدنا يغوص في مسائله أكثر والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل ... (6)
ابن خلدون .. والتقدم :
يتجدد اهتمامنا بابن خلدون بقدر حاجتنا إلىالحرية بمعناها الاجتماعي الواسع، وبقدر حاجتنا إلىالتقدم .. لما في كتاباته من دفاع مجيد عن التقدم والحرية لأن الظلم عنده .." مؤذن بانقطاع النوع وهذا يؤدي إلى تخريب العمران " (7)
كذلك حارب ابن خلدون العرقية التي تفرّق فتجعل الشرق شرقاً بفكره وحضارته، وتجعل الغرب غرباً بفكره وحضارته أيضاً وذلك حين يكتب أن الإنسان يتغير بتغير الظروف حوله وليس هناك تخلف دائم أو تقدم دائم، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث..
وحين تحدث عن الاضطهاد نفى أن يكون نتيجة لطبيعة ثابتة في البشر وإنما الظروف الاجتماعية هي التي تؤدي إليه
تراه يقول: " إن الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشرّ بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة " المقدمة جـ ص 259 " .
وفي رأيه أن الظلم نتيجة استبداد أهل القدرة والسلطان ج1 ص 97 والجهل غير بعيد عن الظلم عند ابن خلدون، لأن مرمى الجهل بين الأنام وبيل، والحق لا يُقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه " (
وقد أعجب ابن خلدون بالتاريخ لأنه علم من العلوم وليس من أهدافه أن يهز المشاعر أو يسحر الألباب أو يعظ أو يقنع الحكومات أو يخدمها .. ولم يكن التاريخ عنده لوناً أدبياً كما يقول ( أيف لاكوست ) لذلك التزم الصراحة في أحكامه والإعراض عن قبول توسلات الأعيان وكبار رجال البلاط الذين كانوا قريبين منه، ومن المؤكد أنه فعل ذلك شغفاً بالعدالة لا رغبةً في التظاهر بالطرافة كما يعبّر الدكتور طه حسين في ص (18) من كتابه ( فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ) .
إن إعجابه بالتاريخ كعلم جعله واقعياً بعيداً عن الأسلوب الرومانسي أي أن عواطفه لم تتحكم بكتاباته، ولم يشغله أن يكون أديباً مُنشئاَ بقدر ما كان يشغله أن يكتب ليثبت وقائع .
ابن خلدون والاقتصاد:
تحدث ابن خلدون عن الزراعة وقد سماها ( الفلاحة ) واعتبرها مهنة المعذبين حين قال: " الفلاحة من معاش المستضعفين .." ولعله لمس الظلم الاجتماعي الواقع على الفلاحين حيث لم يجد فلاحاً واحداً من المترفين أو من أهل الحضر ..
وتحدث كذلك عن التجارة وعرّفها بأنها (محاولة الكسب بتنميةالمال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء....) كما اشار إلى الاحتكار والاستغلال حين قال: " إن البعض يختزن السلعة ويتحيّن بها حوالة السوق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه ..." .
كما تحدث ببصيرته النافذة عن تراكم رأس المال وإن كان الربح قليلاً لأن المال كما يقول ابن خلدون " إن كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثيرٌ ..." وعن علاقة المال بالسلطة أشار إلى أنّه لابد للمال من جاهٍ يتدرّع به فيوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه .
وعن قانون العرض والطلب يقول: " إن التاجر البصير لاينقل من السلّع إلا ما تعّم الحاجة إليه ... " .
ويتحدث عن الغلاء قائلاً: " إذا قلّت السلعة أو عزّت غلت أثمانها وإذا كثرت رخصت أثمانها .." .
وحين يتحدث عن الصناعة يرى " أنها ملكة في أمر علمي فكري ولأنها عملية فهي محسوسة، ونقلها بالعمل أوجب لها وأكمل، لأن المباشرة كما يقول ابن خلدون أو الخبرة العملية كما نقول اليوم في الصناعة أتم فائدة " ... وقد عـرّف الصناعة بأنها ملكة، ويقول عن الملكة أنها صنعة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكراره مرّة بعد مرّة حتى ترسخ صورته.."، نلمح إيمانه بأهمية الصناعة كما نلمح أهمية فضل التعليم الفني في الصناعة كذلك، كما يوضح لنا أن تقدم الصناعة يكون بتكرار العمل فيها ويرى كذلك أن الصناعة ترسخ في البلد برسوخ الحضارة فيه، وطول أمدها، وتحول الصناعة إلى عادة ترسخ بكثرة التكرار كما يقرر أن الاستقرار ضمان لتقدم الصناعة، وأن البلدان إذا قاربت الخراب انتقصت فيها البضائع وتكبر أهمية الصناعة بقدر أهمية السلعة التي تنتجها ....
ضد العنصرية
فندّ ابن خلدون بأسلوبه العلمي الخرافات حول سواد اللون عند بعض الناس، محاربا من خلال ذلك العنصرية التي تقوم على أساس اللون حين يقول: " توهم بعض النسابين ان السودان (جمع أسود) هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وجعل الله الرق في عقبه .. وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص..." .
إن هذه الخرافات يقول ابن خلدون وردت في " التوراة " حيث جاء فيها .." إن دعاء نوح على ابنه حام بأن يكون ولده عبيداً لولد إخوته لا غير " ولم تذكر التوراة لون السواد .
دحض هذه الخرافات بأسلوبه العلمي الذي قام على التجربة والملاحظة والاستقراء، يقول: " إن القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد، وأثرهما في الهواء وفيما يتكون فيه من الحيوان ..." ... جاء كلامه هذا في معرض حديثه في مقدمته عن أثر البيئة والمناخ في السكان وتوزعهم ونمط حياتهم جاء في بعض ماقال : " اعلم أنه يتبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم، أن شكل الأرض كروي، وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها طافيه عليه، فانحسر الماء عن بعض جوانبها لماأراد الله تكوين الحيوانات ،وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها، ثم إن هذا المُنكشف من الأرض فيه القفار والخلاء أكثر من عمرانه، والخالي من جهة الجنوب أكثر من جهة الشمال .
وكان " الجاحظ " قد اشار إلى أثر البيئة في الكائنات التي تعيش فيها منذ القرن الثالث الهجري - قبل ابن خلدون بحوالي خمسة قرون في كتابه الشهير " الحيوان " - فعلى سبيل المثال نراه يقول:
" وقد نرى ( حرّة بني سليم ) وما اشتملت عليه من إنسان وسبع وبهيمة وطائر وحشرة كلها سوداء، ونرى جراد البقول والرياحين خضراً وديدانها خضراً ..."
" قيمة العمل " تحدث عنها ابن خلدون في وقت مبكر وانتقد بشكل واضح تسخير الإنسان لأن " العمل مصدر معاشه الوحيد "، يقول: " ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تسخير الرعايا بغير حق ..."
ويوضح هذه القضية - اغتصاب العمل والاستغلال - أكثر حين يقول: " فإذا كلفّوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم، بطل كسبهم واغتصبوا قيمة أعمالهم، فدخل عليهم الضرر " ،لأن العمل - كما يرى ابن خلدون بحق - هو مصدر رزق الإنسان وتغّيره، يقول " وأعمالهم كلّها متحولاّت ومكاسب لهم بل لامكاسب لهم سواها " .
اكتشف الغرب ابن خلدون بدهشة وإعجاب لأنه سبق كل المنظرين السياسيين الغربيين ،سبق ميكافيلي، وميكو، ومونتسكيو، وسميث،وأوغست كنت بعدة قرون .
ومن الدراسات الهامة في هذا المجال دراسة المستشرق الإيطالي " استيفانو كلوزيو " المقارنة التي كتبها أواخر القرن التاسع عشر، قارن فيها بين شخصين: ابن خلدون - وميكافيلي ،تحت عنوان: " مقدمة لدراسة ابن خلدون " تحدث فيها عن أوجه الشبه والاختلاف بين الفيلسوفين ،ووصل إلى اعتبار ابن خلدون رائد علم جديد هو " علم النقد التاريخي " الذي سبق فيه بقرون عديدة أشهر فلاسفة الأوربيين، الذين شغلهم التاريخ ونقده والسياسة وعلومها .
ويرى هذا المستشرق أن ابن خلدون تحدث في قضايا كثيرة سبق بها الغربيين مثل حديثه عن مذهب الجبر الاجتماعي وحديثه عن " وظيفة الدولة ومفاسدها " والسلطات السياسية وطبقات الاجتماع وكذلك وجد عند ابن خلدون نظرية في "الملاكة وتقسيم الأموال " كما سبق الغربيين في حديثه عن المبدأ الجديد، " لكل بقدر حاجته " ويخلص هذا المستشرق إلى أن آراء ابن خلدون في كيان الجماعات الإنسانية في كيانها المركب - تجعله في أسمى مراتب الفلاسفة المؤرخين وأن ما يعزوه من شأن كبير إلى العمل والملاكة والأجرة يجعله سلفاً وإماماً لاقتصادّيي هذا العصر .
ظهرت دراسة المستشرق الايطالي ( مقدمة لدراسة ابن خلدون ) في اللغة العربية في / 5 (مايو) أيار عام 1925 / على صفحات اسبوعية ( الميزان ) الثقافية التي أسسها في دمشق الناقد المترجم الفلسطيني " أحمد شاكر الكرمي " الأخ الأكبر للشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى ) والأبن البكر للشيخ سعيد الكرمي رئيس المجمع العلمي في دمشق .
ترجم الدراسة الأديب والكاتب "عمر فاخوري " .............لتكون في متناول القارئ العربي والباحث المتتبع للفكر الخلدوني (9) .
ابن خلدون : معالم حياة
ولد عام 1332 في تونس وتوفي في القاهرة عام 1406 - يكون قد عاش (74) أربعة وسبعين عاماً تقلب خلالها بين المناصب الأدبية والسياسية والقضائية . بدأ كاتباً عند سلطان تونس ..وانتهىإلى منصب قاضي قضاة المالكية في مصر ..
امتدت حياته الفاعلة لأكثر من خمسين عاماً ،إذ دخل معترك الحياة قبل العشرين،وقام بمهمة سياسية خطيرة عند السبعين ....
أربعة أعوام امتدت من 1375- 1378، اعتزل فيها الحياة العامة وانزوى في " قلعة ابن سلامة " ليبدع أثره الخالد - المقدمة التي ضمنت له الخلود بين أعظم رجال الفكر في العالم، كتب مقدمته هذه عام 1377 بعد أن وصل منتصف العقد الخامس من عمره .. وقد شاهد وعاش تجارب كانت من العوامل التي وجهته ليكتب هذه المقدمة .
بعد أن كتب كتابه الخالد - المقدمة في التاريخ، رحل إلى مصر وبقي فيها إلى آخر حياته ...
تولى سفارة مصر إلى سورية - دمشق - وحصل اللقاء الشهير بين الفيلسوف العربي، والفاتح المغولي تيمورلنك عام 1401م .
لم ينحصر نشاط هذا العلاّمة في ( تونس ) مسقط رأسه ومصر مثوى رفاته،بل شمل معظم أقطار الوطن العربي ذهب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وزار المقدسات في القدس العربية واشترك في الدّفاع عن دمشق عندما غزاها " تيمورلنك " عام 1401م .
ولعل هذاما دعا " فيليب حتّي " إلى القول في كتابه " مختصر تاريخ العرب ": لقد كان ابن خلدون أكبر فيلسوف ومؤرخ أخرجه الإسلام كما كان أحد أعاظم الفلاسفة والمؤرخين في كل العصور " ..
تميز ابن خلدون بأسلوبه العلمي، لم يكتب كأديب وإنما كتب ليثبت وقائع أو معلومات أو فشاهدات .. إضافة إلى أن كتاباته في موضوع لم يسبق إليه،فرضت عليه أن يوجد كلمات جديدة وأن يستعمل كلماتٍ في معانٍ ليست معروفة أو متداولة وعلمية الأسلوب والاتجاه لم تمنع ابن خلدون من الاشارة يقدمها على شكل نصيحة حول أهم الكتب في التراث العربي حين يقول: " .... سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين هي: أدب الكاتب لابن قتيبة ،وكتاب " الكامل " للمبرد، وكتاب " البيان والتيين " للجاحظ، وكتاب " النوادر " لأبي علي القالي وماسوى هذه الأربعة، فتبع لها وفروع عنها " المقدمة ص 353، طبعة بيروت .
هذا قليلٌ مماقدمه ابن خلدون للحضارة الإنسانية وقد اعترف بفضله هذا كثيرون يقول (إيف لاكوست)، إن ابن خلدون لو وضع مع معاصره (فروسار) في كفتي ميزان لشالت كفة الأخير ولجاءت الموازنة في غير صالح الفكر الغربي على كل حال .
وقال (جان مارسيه): " إن مقدمة ابن خلدون هي أحد المؤلفات الأكثر ضرورة والأكثر إثارة من بين المؤلفات التي قيّض للعقل البشري إنتاجها ".
وقال (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ): إن فلسفة التاريخ التي تخيلّها (ابن خلدون) ثم بسطها في كتبه بدون شك أعظم إنتاج أبدعه أي ذهن في أي عصر وفي أي زمن .."
هذا بعض ما قدمه ابن خلدون الذي أثار بمقدمته الشهيرة اهتمام عدد كبير من العلماء والمفكرين العرب والأجانب، والذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي قرن التحول والانتقال إذا عاش من عام 1332 إلى عام -1406م.
وإذا وصلنا إلى مرحلة تؤهلنا لاستيعاب هذا المؤرخ الفيلسوف العظيم فسوف نجد في مقدمته الكثير من القضايا التي تشغلنا في وقتنا هذا، وتعمل علىتحرير العقول وإيقاظ بذور الإبداع.