كـــازانــتـزاكــي 1885- 1957)
" واجبُنا ... أن نقف أمام الهاوية بكبرياء.. "
قادني الفيلم السينمائي الممتاز زوربا اليوناني ) إلى رائعة نيقوس كازانتزاكيس) الروائية التي أُخذ عنها هذا الفيلم، وهذه تقود القارئ إلى مؤلفاته الأخرى مثل الأخوة الأعداء) و" المسيح يصلب من جديد ".
و" الكابتن ميخائيل" ومن مسرحياته: تسيوس - عطيل يعود- المسيح وبوذا و.بروميثوس وكتب أخرى عن الرحلات وبعد ذلك إلىكتابه الممتاز الطريق إلى غريكو) الذي هومذكرات كازانتزاكيس ،ترجمة الشاعر ممدوح عدوان..
وكازانتزاكي كاتب ومفكر يوناني معاصر، وقمّة شامخة ببين كتّاب الأدب العالميين إذْ حقق شهرة عالميةكشاعر وروائي ..وُلد في جزيرة كريت اليونانية عام 1885م، درس الفلسفة والقانون في جامعة أثينا) ثم انتقل إلى جامعة باريس حيث درس الفلسفةثم عاد إلى وطنه واعتزل عامين في دير للرهبان ،وكان اعتزاله فترة تأمل عميقة اهتزّ معها الكثيرُ من أفكاره الموروثة، وزادت رؤاه وضوحاً وشمولاً ،وخرج إلى الحياة بعد ذلك ليبدع ويكتب من خلال التفاعل مع الإنسان .كان غزير الإنتاج في قوّة وإبداع، متفتح الفكرفي حرّية وحيوية..
ومن أشهر أعماله الشعرية الأوديسة) وهي ملحمة تصور المسار الفكري للكاتب نفسه.. ترجم الروائع الكلاسيكية من الأوروبية إلى اليونانية مثل الكوميديا الإلهية لدانتي).فاوست) لـ جيته) وهكذا تلك زرادشت لـِ نيتشه).
تحوّل في مرحلة لاحقة من عمره إلى الرواية التي كشفت عن قدراته الإبداعية الفذّة في تمكنه من الأسلوب وتأمله العميق للحياة، حين اكتشف في نفسه عند سنّ الخامسة والأربعين نُضجاَ فنيّاً واصبحت الطريق ممهّدة للإبداع ،حيث أعطى أعظم أعماله في السنوات التسع الأخيرة من حياته التي انتهت عام 1957م.
****
إن أدب كازانتزاكي محلّي وعالمي في آن معاً،فشخصياته اليونانية في سماتهاوأخلاقها تصلح لأن تكون نماذج عالمية من حيث القضايا التي تطرحها وطريقة معالجة هذه القضايا....
من أدبه نتعّلم أن الحياة لنا ومن أجلها نعيش ونناضل لأن الحياة ذاتها انتصار على الموت.. والحبُّ والعمل زادُنا في مسيرة الحياة، وسبيلنا إلى الانتصار على اليأس .. والحب والعمل لا يكونان إلاّ للإنسان الحر، الذي يُجرّب حياته كلَّ لحظة ولا يقنع بأفكار مُسبقة موروثة، أو قوالب محفوظة..
يقول على لسان يانكوس ) بطل روايته المسيح يُصلب من جديد) "وهكذا يكون الإنسان كائناً حياً ،يتكلم ويعترض ويُسائل .. وإن أسلحتنا لمواجهة الحياة: العمل والصبر والحب....".
****
كانت الحرية أول رغباتي الكبيرة، أما الثانية والتي تعّذبني كانت الرغبة في الطهارة .. البطل مع القديس هذا هو النموذج الأمثل للإنسان .. لذلك قرر " كازانتزاكي " أن يكون يوليسيس) الرحّالة الباحث رمزه المثالي، فسافر كما تُسافر طائرات الجت) تغذيه قوّة اندفاع من انفجارات عدم رضاه الذاتي، كما يقول كولن ولسون)..يوليسيس هذا توّصل إلى إنسان نبيل عن طريق المعاناة .. وبسبب ذلك فقد غدا كاتِبُنا رمزاً للرجل الذي يرفض التنازل عن البحث وقد استمر في البحث عن إجابات حتى لحظة وفاته...
من هذه الزاوية كتب مسرحية رائعة عام 1949م كريستوف كولومبس ) تسلّط الضوء على الرجل الذي تسيطرعليه شهوة السفر والمعرفة، ولا يبتعدُ عن هذا الاتجاه في حياته، إن كازانتزاكي كان يمجد دائماً في حفلات تكريمه:" العقل الباسل الذي لا يملُّ من البحث الدائم..".
****
" إن حياتي الشخصية لها بعضُ القيمة.. ولكن القيمة الوحيدة التي أعرفها جيداّ كانت في تلك الجهود من أجل الصعّود من درجة إلى أخرى للوصول إلى أعلى نقطة يمكن أن يقود إليها الصمود والعناد...
ويُشير إلى أن الكثيرين يصلون إلى الدرجة الأولى أو الثانية ثم يتهاوون لاهثين في منتصف الرحلة ولا يصلون إلى ذروة واجبهم، مع أن واجب كلّ إنسان حقيقي أن يحمل صليبه ويصعد جلجلته....
لعلّنا هنانستطيع أن ندرك لماذا كان هذا الكاتب يعتبر نفسه متجدد الشباب ،وهو في الرابعة والسبعين من عمره ؟!ولماذا احتفظ بالثقة الفائقة بالنفس تلك الثقة التي رفضت أن تتمرغ .. تروي زوجته هيلين كازانتزاكي ): ".... في باريس كان مريضاً،درجة حرارته مرتفعة والأطباء مُضطربون، لقد فقد الجميع الأمل ... لكنه ظل متماسكاً ،طلب قلماً وأملى عليّ الكلمات التي ينطق بها القديس: قلت لشجرة اللوز حدثيني عن الله ياأختُ.. فأزهرت شجرة اللّوز..."
****
يقول: طوال حياتي كانت هُناك كلمة تعذبني وتجددني هي كلمة الصعود) وسأتابع الصعود وأنا أمزج الواقع بالخيال وسترون أثار الخُطا الحمراء التي خلّفتها ورائي وأنا أصعد وهذا الأثر الدامي هو العلامةالتي ستبقى بعد فنائي.. وهناك أربع درجات حاسمة في صعودي: تحمل كلُّ منها اسماً مُقدساً: المسيح، بوذا، لينين، يوليسيس،أماماخلفته من آثار سيقول: " إنّني رجلٌ صعد جبل مصيره الوعر وكانت هذه الآثار هي تصوير هذا الصعود..".
إن ما يميّز الانسان هو أنه ليس سفينة شراعية بل سفينة ذات محرك صغير قادر على قيادتها حين تعزُّ الريح...
إن الذي أثرّ في حياتي إلى أبعد الحدود، أكثر بكثير من المدارس والمعلمين أكثر من المُتع والمخاوف الأولى، التي انتابتني من رؤيتي للعالم ،والذي هزّني بطريقة فريدة: هو الصراع بين كريت وتركيا.. كنتُ أتعجل أن أكبر لكي أسير في الطريق التي سار فيها جدّي، وأبي ،وأحارب، كانت هذه البذرة ومنها راحت شجرة حياتي كلّها تنمو وتبرعم وتزهر وتثمر..كان التَّوق للحرية هو الذي أثار نفسي في البدء وتسلّقت قمة الحرية الصعبة الشاقة: الحصول على الحرية أولاً من الأتراك، وبعد ذلك الصراع الجديد للحصول على الحرية من الأتراك الداخلّيين: الجهل والحقد والحسد، من الخوف والكسل من الأفكار الخادعة المُضللة .. وأخيراً من الأصنام كلّها حتى أكثرها محبّة واحتراماً وبهذا فإن ولادتي ككريتي حين كانت كريت تُقاتل من أجل حرّيتها جعلتني أدرك منذ طفولتي أن هذا العالم يحتوي على خيرٍأعز على النفس من الحياة وأحلى من السعادة: هو الحرية..
أثناء الحروب كانت قريتي ميغالوكاسترو) تتلاشى كي تتسامى أمامي جبالُ كريت ،وكانت قوّة كريت في داخلي فوق قوتي تتحكم بي، وكانت تمنعني من الاستسلام الذي حاولتُ أن أسقط فيه مراتٍ عديدة وتغلّبت علىالخوف منذ الطفولة، انطلاقاً من احترام النفس وفكرة أنّني كريتي التي ولّدت في نفسي الكبرياء والعناد والبسالة ومع هذه جميعاً تفرح لكونك إنساناً ..
من أجل ذلك رفض كازانتزاكي أن يكون قدّيساً كما رُسم له لأنّه يرى أن القديّسين صاروا أكثر إذعاناً إنهم يحنون رؤوسهم دائماً ..
"..... لقد كان لدَّي حدسٌ أن الرجل الحقيقي هو الذي يقاوم ويكافح ولا يخاف عندما يقتضي الأمر أن يقول :لا..".
إن من واجبنا أن نحدد لأنفسنا هدفاً أبعد من الفردية وأبعد من عاداتنا المريحة والمقبولة وأسمى من نفوسنا وأن نجدَّ ليلاً ونهاراً من أجل تحقيق هذا الهدف.."
كنتُ شرهاً للمعرفة أسرع إلىالمكتبات واشتري المخطوطات عن الأراضي البعيدة والمكتشفين العظماء وقد نزلت بقلبي بذرةروبنسن كروزو) بشكل واضح ونما في نفسي حبُّ القديسين الجُدد، الذين لم يكونوا ينسون الصداقات وكانوا يأخذون كلَّ ما يرغبون بالعمل المتواصل.."
لا أنسى حتى بعد مرور سنوات طويلة ذلك اليوم الذي حصلت فيه كريت على حريتها، والذي أوصل الحريةإلى بلدي أمثال ذلك الراعي الذي يعبق بروث الماعز،والذي عاد لتوّه من الحرب حيث قاتل كالأسُود وعندما تلّقى ورقة ثناء مطبوعة تهنئة على أعماله الباسلة تصفه بالبطل قرأ المراسل الورقة ،لم يفهم الراعي!! ،قالو له: إنّك بطل إن وطنك يُرسل لك هذا الثناء ،تحفظه لك ولأولادك.. مدّ الراعي يده ومزّق الثناء وألقاه في النار وقال: قُل لهم:إنني لم أحارب كي أتلّقى هذه الورقة، لقد قاتلتُ كي أصنع تاريخاً، قُلْ لهم لا أريد أي جزاء حاربت لأنني كنتُ أريد ذلك هذا هو العمل الأول في حياتي..."
إن علامة السعادة عند كازانتزاكي أن يقفز قلبه مثل العجل الصغير، وكان يحدث له ذلك حين يُقابل شروق الشمس أو لوحة فنيّة أو امرأة أو فكرة جديدة..
يحدثنا في مذكراته أن الأرقام الزوجية تجري مُعاكسةً لقلبه ،ولا شأن له بها ،لأن حياتها مرتبة بشكل مُريح جداً،إنّها تقف على أقدامها بثبات كبير،وليس لديها أية رغبة، في تغيير مكانها فهي قانعة ومحافظة ومستقره لقد حلّت كلَّ مشكلة، وحوّلت كلَّ رغبةٍ إلى واقع وهدأت، الرقم الفردي هو الذي يتلاءم مع إيقاع قلبي فحياة الرقم الفردي ليست مرتبةً بشكل مريح والرقم الفردي لا يحب العالم بالشكل الذي يراه عليه، بل يرغب في تغييره والإضافة إليه،ودفعه إلى الأمام، يقف علىقدم واحدة والأخرى جاهزة في الهواء وهو راغبٌ في الرحيل إلى أين؟إلى الرقم الزوجي التالي من أجل أن يتوقف قليلاً، يلتقط أنفاسه ويستحضر رقماًجديداً..".ودائماً يتذكر كازانتزاكي القول الكريتي " عُد إلىحيث فشلت وغادر من حيث نجحت.." فإن فشلت فسأعاود الهجوم حتى لو لم يبق إلاّ ساعة واحدة من العمر...".
تقدمت بثقة كأنني أعرف وجهي الحقيقي، وواجبي الوحيد أن أعمل هذا الوجه بأكثر ما أستطيع من صبرْ وحُبٍّ ومهارة،أن أعمله؟مامعنى ذلك؟..معناه أن أحوّله إلى لهب وإذا كان لدي الوقت قبل مجيء الموت، أن أحوّل هذا اللهب إلى ضوء، بحيث أن ملك الموت لن يجد - حين يأتي شيئاً فيَّ كي يأخذه إلاّ القليل من العظام..
" إن الأمر الذي ساعدني في الوصول إلىهذه الثقة أكثر من أي شيء آخر، هو أن أسلافي فيهم جميعاً آثار عربية،فهم فخورون وعنيدون، ومعتدلون في طعامهم، كانوا يخزنون حبّهم أو غضبهم سنوات عديدة في صدورهم دون أن ينبسوا بكلمة ثم بغتة ينفجرون ... والقائدة بالنسبة لهم ليست الحياة بل العاطفة، وقلبي يخفق فرحاًحينما أصادف نخلة تظنُّ أنّهاتعود إلىمسقط رأسها في القرية.."
***
إن هناك تعاقداً غامضاً بين الأرض التي ولدنا عليها ،وبين أرْواحنا التي نمت فوقها، وتماماً كما تُرسل الجذور أمراً سرّياً إلى الشجرة كي تزهر، وتحمل الثمار كي تبرر وجودها وتصل إلى الهدف من رحلتها..كذلك فإن أرض الأسلاف تفرض وصايا صعبة علىالأرواح التي ولدتها ويبدو أن الأرض والروح مصوغتان من المادة ذاتها وتقومان بالهجوم ذاته والروح هي التي تحقِّق الانتصار الأكمل..
كان والدي شجرة سنديان بجذع صلب وأوراق خشنة وثمر مُرٍّ بلا أزهار وكانت كل شجرة تذبل في ظلّه وأنا الآخر كنتً أذبل في هذا الظل .. كنتُ أفكر في والدي فيجبُن قلبي ولهذا كنتُ مُجبراً علىكتابة كلّ ما كنتُ أرغب في نقله بدلاً من أن أصبح مُكافحاً عظيماً في مملكةالفعل- بسبب خوفي من والدي- لقد كان هو الذي حوّل دمي إلىحبر.. لقد سلكتُ طريقاً لم أختره بل هو الذي اختارني..".
بدأت أكتب لكي أحول صرختي الداخلية وأمنع نفسي من الانفجار، كنتُ أتمنى أن أحول الكلمات إلى أفعال، ولكن العمل انحطّ إلى كلمات وتحوّل الدم إلى حبر وبدلاً من إشهار الرمح وشنّ الحرب فإنّني أمسك بريشة صغيرة وأكتب..
لقد كان لقائي بـ زوربا) مُتأخراً لقد سبق ذلك أن انحدرتُ إلى حامل قلم لا شفاء له..
طوال حياتي وأنا واقع تحت سيطرة الشخصيات البطولية العظيمة،ربّما لأنني قرأت حياة القديسين بكثير من التأثر في طفولتي ،وكنتُ أتوق لأن أصبح قديساً بدوري، ثم بعد ذلك وهبتُ نفسي،وبالانفعال ذاته للكتب التي تتحدث عن الأبطال الفاتحين والمكتشفين والدون كيشوتيين وحالما يُصادف أن تجمع شخصية ما بين البطولة والطهارة أحوز على نموذجي من الكائن البشري وبما أنّني لم أستطع أن أكون قديساً أو بطلاً فلقد حاولت عن طريق الكتابة أن أجد العزاء عن عجزي.
كنتُ أعرف أن ما أكتبه لن يكون كاملاً من الوجهة الفنيّة ذلك أنّي تعمدت تخطّي حدود الفنّ.. وكلّما كتبتُ أكثر تعمق إحساسي بالكتابة، كنتُ أكافح ليس من أجل الجمال بل من أجل الخلاص،وإذا كنتً أكتب فلأن الكتابة كانت سندي الوحيد في كفاحي وحين تفتح بالكتابةأو بالعمل مجرى نهر فإن الحقيقةتجري فيه وتتخذ مساراً لم تكن لتتخذّه لولا تدخلّنا ومساهمتنا.. رُبّما كانت الكتابة لعباً في عصور التوازن والانسجام، ولكنها اليوم مهّمة جسيمة لم يَعُد الغرض منها التسلية والمساعدة على النسيان، ولكن الغرض من الكتابة تحريض الإنسان على بذل قُصارى جهده لتجاوزالوحش الكامن في أعماقه..
في كلِّ ما كتبت كنت أفرش الأرضية من الأساطير، أوالعصور القديمة، إلاّ أن المادةحديثة وحيّة تُعاني من مشاكل معاصرة ومن عذابات أيامنا وكنتً أرى دائماً أن فنان اليوم المبدع إذا قام بالتعبير عن أعمق توجساته الداخلية تعبيراً صادقاً ومتكاملاً فإنه بعمله هذا يُساعد إنسان المستقبل على أن يولد قبل ساعة من موعده وأن يكون هذا الإنسان أكثر قُرباً من الكمال.
إن قيمة الانسان لا تكمن في النصر، بل في الكفاح من أجل النّصر وأن القيمة الأكثر روعةً تكمن في شيء واحد فقط هو أن يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل بقبول أي جزاء،جاهدت كثيراً كي أعثر على مُصطلح بسيط دون رقعة.تزيينية المصطلح الذي لا يثقل على عواطفي بغناه فيُحطمها،متذكراً قصة ذلك المتصوف المسلم العطشان الذي أنزل الوعاء في بئر لكي يسحب الماء ويشرب، رفع الوعاء فرآه مليئاً بالذهب أفرغه وأنزله من جديد ثم سحبه فكان مليئاً بالفضّة أفرغه وقال:" ... أعرف أنّك مليء بالكنوز يامولاي ،ولكن أعطني فقط بعض الماء لأشرب: أنا عطشان، أنزل الوعاء ثانية وسحب الماء، ثم شرب،هكذا يجب أن تكون الكلمة: دون زينات،" كنتً مفتوناً بثلاثة من مخلوقات الله: الدودة التي تصير فراشة،والسمكة الطائرة التي تقفزمن الماء محاولة تجاوز طبيعتها،ودودة الحرير التي تحول أحشاءها إلى حرير...".
كانت حياتي غاية في البساطة لدرجة أن اعتبرهابعض الناس معقدة بشكل خطر،" وكلّ مافعلته في حياتي البسيطة، حاول الناس أن يكسبوه معنىً مختلفاً ويتكهنّوا حوله بما هو مُختفٍ وكامن.... حياتي بسيطة حتّى أنّني لا أفعل شيئا حتى أننّي لا أدخنّ.."..
ذات يوم سألت نبتات شوكية ُشجيرةالورد: ألا تُعلمّيننا سّرك كيف تصنعين الوردة؟.أجابت شجيرة الورد:".. سّري بسيط جداً ياأخواتي الشوكيات إنني أعمل طوال الشتاء بصبرٍ وثقةٍ وحب وشيء واحديستولي على ذهني: الوردة يلسعني المطر وتعريني الريح من أوراقي ويسحقني الثلج، لكن شيئاً واحداً يظل مستولياً على ذهني: الوردة هذا هو سّري ياأخواتي..".
كي يستمر الواحد منا في الصعود كما يُحبّ أن يسميه الكاتب لابد أن ينظر إلى نفسه بمعرفة وتواضع لأن ذلك الذي يعتقد أنه على القمة لن يتقدم أبداً إلى الأعلى . لنسمعه يُقارن نفسه مع صديق شاعر عاش معه طويلاً ،يقول" .. كنتً خالياً من السذاجة وغير واثق من أي شيء،لم أولد أميراً، ولكنني كنت أجاهد كي أصبح أميراً، أما صديقي فلا شك أنّه وُلد أميراً وليس عليه أن يُعاني، وأن يُكافح كي يصبح أميراً وليس عليه أن يتوق إلى القمة، طالما أنّه كان واثقاً أنه قد وصل إليها. كان مُقتنعاً أنه فريد من نوعه، ولن يتنازل لمقارنة نفسه بأي فنان آخر حيّاً كان أم ميتاً،وقد منحته هذه السّذاجة قوّة وثقة في النفس عظيمتين".
في داخل كلِّ إنسان مُتكامل،مركز غامض يدور حوله كلُّ شيء آخر، وهذا الدوران الغامض يوّحد بين أفكاره وأفعاله ويُساعده في العثور علىالانسجام الاجتماعي أو اختراعه. .هذا المركز بالنسبة للبعض هو: الحب ولآخرين هو: الجمال ولغيرهم هو: المعرفةوالتعطّش إليها، ولغيرهم: الذهب أو السلطة.. إنّهم يفحصون القيمة النسبّية لكل شيء وفقاً لهذه العاطفة المركزية ويالتعاسة الإنسان الذي لا يُحسَّ نفسه محكوماً في داخله من قبل سلطان مُطلق فحياته غيرُ المحكومة والمشوشة تبعثرها الرياح الأربع.
يقول كازانتزاكي:" كان الأمر الهام بالنسبة لي، أنني يجب أن أجد أوأخلق) هدفاًمُنسجماَ مع نفسي ذاتهاوباتباعه أستطيع إثارة إمكاناتي ورغباتي الخاصةإلى أقصى حدٍّ ممكن وعندها أخيراً سأكون مُتعاوناً بانسجام تام مع كلّية الكون..".
كنتُ أعتبر الأمل الميتافيزيقي طعماً مُغرياً، لايتنازل الناس الحقيقيون لقضمه،كنتُ أريد كلَّ ما هو أكثر صعوبة:" الإنسان الذي لا يئن ولايتراجع ولا يمضي مُتسولاَ راجياً . الإنسان الحقيقي ليس غنمة وليس كلب حراسة، أو ذئباً أو راعياً،إنه مَلِك يحملً مملكته معه ويتقدم .
ما أجمل أن تكون حيّاً ومعك حواسك الخمس الأبواب الخمسة التي يدخل العالم منها- وهي تعمل بشكل جيد:
ما أجمل أن تقول:" إن العالم جميلٌ ،وأناأحبّه..إن أثمن الغنائم العقلية التي حصلت عليها في بلدي هي أنني أدركت بأن عظمتها ليست في الجمال بل في الكفاح من أجل الحرّية لم يكن جمال بلادي هوالذي دلّني علىالطريق،وأدخلني في الرجولة بل المسؤولية . تلك هي الثمرةالمرّة التي كنتً أمسك بها في يدي وأنا أدخل بيت أبي بعد عودتي من رحلة الأشهر الثلاثة في ربوع بلادي،رجعتً وصرختُ بثقة،" أين أجدُ روحاً عنيدة بألاف الجروح مثل روحي كي تستمع لاعترافي؟ بهدوء وإشفاق، أعتصر كمشةً من التراب الكريتي في راحتي كنتُ أحتفظ بهذه التّربةدائماًخلال تجوالي وأنا أضغطها في كفّي لحظات الألم العميق،فأستمد منها القوةالعظيمة كأنّني استمدها من الضّغط علىيد صديق حبيب وغالٍ، هذه التربةهي ما كنته دائماً وأبداً وهي ما سأكونه دائماً وأبداً..
هذاماقاله كازانتزاكي عن كريت).
أما ما قاله عن قريته الصغيرة ميغالوكاسترو) فكان رائعاً يتفجر بالنّاس الحقيقييّن حتى يكاد المرء يتحسّسهم على وشك الخروج من بين سطور الصفحة تقريباً علىحد تعبير كولن ولسون).
هؤلاء ... علّموني :
إن مايبقى خالداً في نفسي معلم الصف الأول الذي كنتً أنظر إلى أسلوبه والعصامعه علىأنه همجي، ولكن بعد أن عرفتُ الطبيعة البشريةبشكل أفضل باركتُ عصا المعلم المقدّسة فهي التي علّمتنا المعاناة، هي المرشد الأعظم في ذلك الصعود الذي يقود من الحيوان إلى الإنسان، وبقي كذلك خالداً في نفسي والدي يوم أن هبّت عاصفة عاتية في الصيف ذهبت بعنب بلدنا ومؤونة الشتاء وبكىالناس واستنجدوا لكن والدي قال: عندما قُلت لنذهب معهم:" لم نذهب اخرس، لم أنسَ هذه اللحظة طوال حياتي وأعتقد إنها نفعتني كدرس عظيم في أزمات حياتي.. كنتُ دائماً أتذكره وهو واقف بهدوء دون حراك على العتبة دون أن يلعن أو يتوّسل أو يبكي .. بلا حراك كان يقف يرْقب الخراب وحده، بين الجيران، ظلّ محافظاً على كرامته البشرية..".
يُقال إن الإنسان هوالحيوان الوحيد الذي يفكر في الموت.. " لكنني أخالف هذا الرأي،لا .. الإنسان هو الحيوان الذي يفكر في ديمومةالحياة..".
"لقد سجنتُ الموت" هكذا قال جدّي!!
قلت كيف حققّت ذلك، قال: " بعدم خوفي منه"..
صحيح أننالا نستطيع أن نقهر الموت إلاّ أننا نستطيع أن نقهر خوفنا منه.. هكذا يقول الجبلي الذي وسعّت التلال روحه وحصّنتها..
"تعلمتُ من شيخ كان يعظ الشباب ليبعث فيهم الشجاعة حدقوا في الخوف، في عينيه تماماً، إذا استطعتم عندها فإن الخوف سوف يّولي هارباً".
وتعلمت من سمكةرأيتها بين أسماك عديدة كانت تلعب في الماء، سمكة نشرت زعانفها بغتةً وقفزت خارجة من الماء لكي تتنفس الهواء، رأت في نفسها قدرة أكبر من أن تعيش في الماء، تاقت لأن تتعدّى حدودها وتصبح عصفوراً ولو لوهلةٍ قصيرةٍ هذه الوهلة عندي هي الأبدية،رأيت فيها كريت بلدي السمكة التي تقفز لكي تتجاوز الضرورة وتتنفّس الحرّية.."
سأظل كشجرة تهب عليها الريح ،ويسقط عليها المطر والشمس وسأظل أنتظر بثقة ،فساعةُ الإزهار والإثمار التي يطول انتظارها لابدّ أن تأتي ..
وقد لخص كازانتزاكي) رحلته الفكرية بكلمات وردت في مذكراته الطريق إلى غريكو)
"... أنامثل الحكيم الصّيني القديم بدوتُ وكأنني ولدتً أشيب عجوزاً مقعداً بلحيةٍ بيضاء كالثلج، ومع مرور السنين صارت اللحية شهباء،ثم راحت تسّودُ تدريجياً ثم تساقطت، في سنوات شيخوختي انتشر زُغب ناعم دقيق علىخدّي، لم يكن شبابي إلاّ مجموعة من المُقْلقات والكوابيس والتساؤلات وسنوات نضجي لم تكن إلا إجابات متعّثرة.
كان شبابي ورجولتي يدوران حول قطبي الألم والأمل ،لكنني الآن في شيخوختي أقف أمام الهاوية هادئاً ودون خوف لم أعد أذل نفسي .. أعرف تماماً أن الموت اللامرئي قادمٌ لامحالة،وأعرف كذلك أن قيمة الإنسان لا تكمن في النّصر، بل في الكفاح من أجل النّصر
" واجبُنا ... أن نقف أمام الهاوية بكبرياء.. "
قادني الفيلم السينمائي الممتاز زوربا اليوناني ) إلى رائعة نيقوس كازانتزاكيس) الروائية التي أُخذ عنها هذا الفيلم، وهذه تقود القارئ إلى مؤلفاته الأخرى مثل الأخوة الأعداء) و" المسيح يصلب من جديد ".
و" الكابتن ميخائيل" ومن مسرحياته: تسيوس - عطيل يعود- المسيح وبوذا و.بروميثوس وكتب أخرى عن الرحلات وبعد ذلك إلىكتابه الممتاز الطريق إلى غريكو) الذي هومذكرات كازانتزاكيس ،ترجمة الشاعر ممدوح عدوان..
وكازانتزاكي كاتب ومفكر يوناني معاصر، وقمّة شامخة ببين كتّاب الأدب العالميين إذْ حقق شهرة عالميةكشاعر وروائي ..وُلد في جزيرة كريت اليونانية عام 1885م، درس الفلسفة والقانون في جامعة أثينا) ثم انتقل إلى جامعة باريس حيث درس الفلسفةثم عاد إلى وطنه واعتزل عامين في دير للرهبان ،وكان اعتزاله فترة تأمل عميقة اهتزّ معها الكثيرُ من أفكاره الموروثة، وزادت رؤاه وضوحاً وشمولاً ،وخرج إلى الحياة بعد ذلك ليبدع ويكتب من خلال التفاعل مع الإنسان .كان غزير الإنتاج في قوّة وإبداع، متفتح الفكرفي حرّية وحيوية..
ومن أشهر أعماله الشعرية الأوديسة) وهي ملحمة تصور المسار الفكري للكاتب نفسه.. ترجم الروائع الكلاسيكية من الأوروبية إلى اليونانية مثل الكوميديا الإلهية لدانتي).فاوست) لـ جيته) وهكذا تلك زرادشت لـِ نيتشه).
تحوّل في مرحلة لاحقة من عمره إلى الرواية التي كشفت عن قدراته الإبداعية الفذّة في تمكنه من الأسلوب وتأمله العميق للحياة، حين اكتشف في نفسه عند سنّ الخامسة والأربعين نُضجاَ فنيّاً واصبحت الطريق ممهّدة للإبداع ،حيث أعطى أعظم أعماله في السنوات التسع الأخيرة من حياته التي انتهت عام 1957م.
****
إن أدب كازانتزاكي محلّي وعالمي في آن معاً،فشخصياته اليونانية في سماتهاوأخلاقها تصلح لأن تكون نماذج عالمية من حيث القضايا التي تطرحها وطريقة معالجة هذه القضايا....
من أدبه نتعّلم أن الحياة لنا ومن أجلها نعيش ونناضل لأن الحياة ذاتها انتصار على الموت.. والحبُّ والعمل زادُنا في مسيرة الحياة، وسبيلنا إلى الانتصار على اليأس .. والحب والعمل لا يكونان إلاّ للإنسان الحر، الذي يُجرّب حياته كلَّ لحظة ولا يقنع بأفكار مُسبقة موروثة، أو قوالب محفوظة..
يقول على لسان يانكوس ) بطل روايته المسيح يُصلب من جديد) "وهكذا يكون الإنسان كائناً حياً ،يتكلم ويعترض ويُسائل .. وإن أسلحتنا لمواجهة الحياة: العمل والصبر والحب....".
****
كانت الحرية أول رغباتي الكبيرة، أما الثانية والتي تعّذبني كانت الرغبة في الطهارة .. البطل مع القديس هذا هو النموذج الأمثل للإنسان .. لذلك قرر " كازانتزاكي " أن يكون يوليسيس) الرحّالة الباحث رمزه المثالي، فسافر كما تُسافر طائرات الجت) تغذيه قوّة اندفاع من انفجارات عدم رضاه الذاتي، كما يقول كولن ولسون)..يوليسيس هذا توّصل إلى إنسان نبيل عن طريق المعاناة .. وبسبب ذلك فقد غدا كاتِبُنا رمزاً للرجل الذي يرفض التنازل عن البحث وقد استمر في البحث عن إجابات حتى لحظة وفاته...
من هذه الزاوية كتب مسرحية رائعة عام 1949م كريستوف كولومبس ) تسلّط الضوء على الرجل الذي تسيطرعليه شهوة السفر والمعرفة، ولا يبتعدُ عن هذا الاتجاه في حياته، إن كازانتزاكي كان يمجد دائماً في حفلات تكريمه:" العقل الباسل الذي لا يملُّ من البحث الدائم..".
****
" إن حياتي الشخصية لها بعضُ القيمة.. ولكن القيمة الوحيدة التي أعرفها جيداّ كانت في تلك الجهود من أجل الصعّود من درجة إلى أخرى للوصول إلى أعلى نقطة يمكن أن يقود إليها الصمود والعناد...
ويُشير إلى أن الكثيرين يصلون إلى الدرجة الأولى أو الثانية ثم يتهاوون لاهثين في منتصف الرحلة ولا يصلون إلى ذروة واجبهم، مع أن واجب كلّ إنسان حقيقي أن يحمل صليبه ويصعد جلجلته....
لعلّنا هنانستطيع أن ندرك لماذا كان هذا الكاتب يعتبر نفسه متجدد الشباب ،وهو في الرابعة والسبعين من عمره ؟!ولماذا احتفظ بالثقة الفائقة بالنفس تلك الثقة التي رفضت أن تتمرغ .. تروي زوجته هيلين كازانتزاكي ): ".... في باريس كان مريضاً،درجة حرارته مرتفعة والأطباء مُضطربون، لقد فقد الجميع الأمل ... لكنه ظل متماسكاً ،طلب قلماً وأملى عليّ الكلمات التي ينطق بها القديس: قلت لشجرة اللوز حدثيني عن الله ياأختُ.. فأزهرت شجرة اللّوز..."
****
يقول: طوال حياتي كانت هُناك كلمة تعذبني وتجددني هي كلمة الصعود) وسأتابع الصعود وأنا أمزج الواقع بالخيال وسترون أثار الخُطا الحمراء التي خلّفتها ورائي وأنا أصعد وهذا الأثر الدامي هو العلامةالتي ستبقى بعد فنائي.. وهناك أربع درجات حاسمة في صعودي: تحمل كلُّ منها اسماً مُقدساً: المسيح، بوذا، لينين، يوليسيس،أماماخلفته من آثار سيقول: " إنّني رجلٌ صعد جبل مصيره الوعر وكانت هذه الآثار هي تصوير هذا الصعود..".
إن ما يميّز الانسان هو أنه ليس سفينة شراعية بل سفينة ذات محرك صغير قادر على قيادتها حين تعزُّ الريح...
إن الذي أثرّ في حياتي إلى أبعد الحدود، أكثر بكثير من المدارس والمعلمين أكثر من المُتع والمخاوف الأولى، التي انتابتني من رؤيتي للعالم ،والذي هزّني بطريقة فريدة: هو الصراع بين كريت وتركيا.. كنتُ أتعجل أن أكبر لكي أسير في الطريق التي سار فيها جدّي، وأبي ،وأحارب، كانت هذه البذرة ومنها راحت شجرة حياتي كلّها تنمو وتبرعم وتزهر وتثمر..كان التَّوق للحرية هو الذي أثار نفسي في البدء وتسلّقت قمة الحرية الصعبة الشاقة: الحصول على الحرية أولاً من الأتراك، وبعد ذلك الصراع الجديد للحصول على الحرية من الأتراك الداخلّيين: الجهل والحقد والحسد، من الخوف والكسل من الأفكار الخادعة المُضللة .. وأخيراً من الأصنام كلّها حتى أكثرها محبّة واحتراماً وبهذا فإن ولادتي ككريتي حين كانت كريت تُقاتل من أجل حرّيتها جعلتني أدرك منذ طفولتي أن هذا العالم يحتوي على خيرٍأعز على النفس من الحياة وأحلى من السعادة: هو الحرية..
أثناء الحروب كانت قريتي ميغالوكاسترو) تتلاشى كي تتسامى أمامي جبالُ كريت ،وكانت قوّة كريت في داخلي فوق قوتي تتحكم بي، وكانت تمنعني من الاستسلام الذي حاولتُ أن أسقط فيه مراتٍ عديدة وتغلّبت علىالخوف منذ الطفولة، انطلاقاً من احترام النفس وفكرة أنّني كريتي التي ولّدت في نفسي الكبرياء والعناد والبسالة ومع هذه جميعاً تفرح لكونك إنساناً ..
من أجل ذلك رفض كازانتزاكي أن يكون قدّيساً كما رُسم له لأنّه يرى أن القديّسين صاروا أكثر إذعاناً إنهم يحنون رؤوسهم دائماً ..
"..... لقد كان لدَّي حدسٌ أن الرجل الحقيقي هو الذي يقاوم ويكافح ولا يخاف عندما يقتضي الأمر أن يقول :لا..".
إن من واجبنا أن نحدد لأنفسنا هدفاً أبعد من الفردية وأبعد من عاداتنا المريحة والمقبولة وأسمى من نفوسنا وأن نجدَّ ليلاً ونهاراً من أجل تحقيق هذا الهدف.."
كنتُ شرهاً للمعرفة أسرع إلىالمكتبات واشتري المخطوطات عن الأراضي البعيدة والمكتشفين العظماء وقد نزلت بقلبي بذرةروبنسن كروزو) بشكل واضح ونما في نفسي حبُّ القديسين الجُدد، الذين لم يكونوا ينسون الصداقات وكانوا يأخذون كلَّ ما يرغبون بالعمل المتواصل.."
لا أنسى حتى بعد مرور سنوات طويلة ذلك اليوم الذي حصلت فيه كريت على حريتها، والذي أوصل الحريةإلى بلدي أمثال ذلك الراعي الذي يعبق بروث الماعز،والذي عاد لتوّه من الحرب حيث قاتل كالأسُود وعندما تلّقى ورقة ثناء مطبوعة تهنئة على أعماله الباسلة تصفه بالبطل قرأ المراسل الورقة ،لم يفهم الراعي!! ،قالو له: إنّك بطل إن وطنك يُرسل لك هذا الثناء ،تحفظه لك ولأولادك.. مدّ الراعي يده ومزّق الثناء وألقاه في النار وقال: قُل لهم:إنني لم أحارب كي أتلّقى هذه الورقة، لقد قاتلتُ كي أصنع تاريخاً، قُلْ لهم لا أريد أي جزاء حاربت لأنني كنتُ أريد ذلك هذا هو العمل الأول في حياتي..."
إن علامة السعادة عند كازانتزاكي أن يقفز قلبه مثل العجل الصغير، وكان يحدث له ذلك حين يُقابل شروق الشمس أو لوحة فنيّة أو امرأة أو فكرة جديدة..
يحدثنا في مذكراته أن الأرقام الزوجية تجري مُعاكسةً لقلبه ،ولا شأن له بها ،لأن حياتها مرتبة بشكل مُريح جداً،إنّها تقف على أقدامها بثبات كبير،وليس لديها أية رغبة، في تغيير مكانها فهي قانعة ومحافظة ومستقره لقد حلّت كلَّ مشكلة، وحوّلت كلَّ رغبةٍ إلى واقع وهدأت، الرقم الفردي هو الذي يتلاءم مع إيقاع قلبي فحياة الرقم الفردي ليست مرتبةً بشكل مريح والرقم الفردي لا يحب العالم بالشكل الذي يراه عليه، بل يرغب في تغييره والإضافة إليه،ودفعه إلى الأمام، يقف علىقدم واحدة والأخرى جاهزة في الهواء وهو راغبٌ في الرحيل إلى أين؟إلى الرقم الزوجي التالي من أجل أن يتوقف قليلاً، يلتقط أنفاسه ويستحضر رقماًجديداً..".ودائماً يتذكر كازانتزاكي القول الكريتي " عُد إلىحيث فشلت وغادر من حيث نجحت.." فإن فشلت فسأعاود الهجوم حتى لو لم يبق إلاّ ساعة واحدة من العمر...".
تقدمت بثقة كأنني أعرف وجهي الحقيقي، وواجبي الوحيد أن أعمل هذا الوجه بأكثر ما أستطيع من صبرْ وحُبٍّ ومهارة،أن أعمله؟مامعنى ذلك؟..معناه أن أحوّله إلى لهب وإذا كان لدي الوقت قبل مجيء الموت، أن أحوّل هذا اللهب إلى ضوء، بحيث أن ملك الموت لن يجد - حين يأتي شيئاً فيَّ كي يأخذه إلاّ القليل من العظام..
" إن الأمر الذي ساعدني في الوصول إلىهذه الثقة أكثر من أي شيء آخر، هو أن أسلافي فيهم جميعاً آثار عربية،فهم فخورون وعنيدون، ومعتدلون في طعامهم، كانوا يخزنون حبّهم أو غضبهم سنوات عديدة في صدورهم دون أن ينبسوا بكلمة ثم بغتة ينفجرون ... والقائدة بالنسبة لهم ليست الحياة بل العاطفة، وقلبي يخفق فرحاًحينما أصادف نخلة تظنُّ أنّهاتعود إلىمسقط رأسها في القرية.."
***
إن هناك تعاقداً غامضاً بين الأرض التي ولدنا عليها ،وبين أرْواحنا التي نمت فوقها، وتماماً كما تُرسل الجذور أمراً سرّياً إلى الشجرة كي تزهر، وتحمل الثمار كي تبرر وجودها وتصل إلى الهدف من رحلتها..كذلك فإن أرض الأسلاف تفرض وصايا صعبة علىالأرواح التي ولدتها ويبدو أن الأرض والروح مصوغتان من المادة ذاتها وتقومان بالهجوم ذاته والروح هي التي تحقِّق الانتصار الأكمل..
كان والدي شجرة سنديان بجذع صلب وأوراق خشنة وثمر مُرٍّ بلا أزهار وكانت كل شجرة تذبل في ظلّه وأنا الآخر كنتً أذبل في هذا الظل .. كنتُ أفكر في والدي فيجبُن قلبي ولهذا كنتُ مُجبراً علىكتابة كلّ ما كنتُ أرغب في نقله بدلاً من أن أصبح مُكافحاً عظيماً في مملكةالفعل- بسبب خوفي من والدي- لقد كان هو الذي حوّل دمي إلىحبر.. لقد سلكتُ طريقاً لم أختره بل هو الذي اختارني..".
بدأت أكتب لكي أحول صرختي الداخلية وأمنع نفسي من الانفجار، كنتُ أتمنى أن أحول الكلمات إلى أفعال، ولكن العمل انحطّ إلى كلمات وتحوّل الدم إلى حبر وبدلاً من إشهار الرمح وشنّ الحرب فإنّني أمسك بريشة صغيرة وأكتب..
لقد كان لقائي بـ زوربا) مُتأخراً لقد سبق ذلك أن انحدرتُ إلى حامل قلم لا شفاء له..
طوال حياتي وأنا واقع تحت سيطرة الشخصيات البطولية العظيمة،ربّما لأنني قرأت حياة القديسين بكثير من التأثر في طفولتي ،وكنتُ أتوق لأن أصبح قديساً بدوري، ثم بعد ذلك وهبتُ نفسي،وبالانفعال ذاته للكتب التي تتحدث عن الأبطال الفاتحين والمكتشفين والدون كيشوتيين وحالما يُصادف أن تجمع شخصية ما بين البطولة والطهارة أحوز على نموذجي من الكائن البشري وبما أنّني لم أستطع أن أكون قديساً أو بطلاً فلقد حاولت عن طريق الكتابة أن أجد العزاء عن عجزي.
كنتُ أعرف أن ما أكتبه لن يكون كاملاً من الوجهة الفنيّة ذلك أنّي تعمدت تخطّي حدود الفنّ.. وكلّما كتبتُ أكثر تعمق إحساسي بالكتابة، كنتُ أكافح ليس من أجل الجمال بل من أجل الخلاص،وإذا كنتً أكتب فلأن الكتابة كانت سندي الوحيد في كفاحي وحين تفتح بالكتابةأو بالعمل مجرى نهر فإن الحقيقةتجري فيه وتتخذ مساراً لم تكن لتتخذّه لولا تدخلّنا ومساهمتنا.. رُبّما كانت الكتابة لعباً في عصور التوازن والانسجام، ولكنها اليوم مهّمة جسيمة لم يَعُد الغرض منها التسلية والمساعدة على النسيان، ولكن الغرض من الكتابة تحريض الإنسان على بذل قُصارى جهده لتجاوزالوحش الكامن في أعماقه..
في كلِّ ما كتبت كنت أفرش الأرضية من الأساطير، أوالعصور القديمة، إلاّ أن المادةحديثة وحيّة تُعاني من مشاكل معاصرة ومن عذابات أيامنا وكنتً أرى دائماً أن فنان اليوم المبدع إذا قام بالتعبير عن أعمق توجساته الداخلية تعبيراً صادقاً ومتكاملاً فإنه بعمله هذا يُساعد إنسان المستقبل على أن يولد قبل ساعة من موعده وأن يكون هذا الإنسان أكثر قُرباً من الكمال.
إن قيمة الانسان لا تكمن في النصر، بل في الكفاح من أجل النّصر وأن القيمة الأكثر روعةً تكمن في شيء واحد فقط هو أن يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل بقبول أي جزاء،جاهدت كثيراً كي أعثر على مُصطلح بسيط دون رقعة.تزيينية المصطلح الذي لا يثقل على عواطفي بغناه فيُحطمها،متذكراً قصة ذلك المتصوف المسلم العطشان الذي أنزل الوعاء في بئر لكي يسحب الماء ويشرب، رفع الوعاء فرآه مليئاً بالذهب أفرغه وأنزله من جديد ثم سحبه فكان مليئاً بالفضّة أفرغه وقال:" ... أعرف أنّك مليء بالكنوز يامولاي ،ولكن أعطني فقط بعض الماء لأشرب: أنا عطشان، أنزل الوعاء ثانية وسحب الماء، ثم شرب،هكذا يجب أن تكون الكلمة: دون زينات،" كنتً مفتوناً بثلاثة من مخلوقات الله: الدودة التي تصير فراشة،والسمكة الطائرة التي تقفزمن الماء محاولة تجاوز طبيعتها،ودودة الحرير التي تحول أحشاءها إلى حرير...".
كانت حياتي غاية في البساطة لدرجة أن اعتبرهابعض الناس معقدة بشكل خطر،" وكلّ مافعلته في حياتي البسيطة، حاول الناس أن يكسبوه معنىً مختلفاً ويتكهنّوا حوله بما هو مُختفٍ وكامن.... حياتي بسيطة حتّى أنّني لا أفعل شيئا حتى أننّي لا أدخنّ.."..
ذات يوم سألت نبتات شوكية ُشجيرةالورد: ألا تُعلمّيننا سّرك كيف تصنعين الوردة؟.أجابت شجيرة الورد:".. سّري بسيط جداً ياأخواتي الشوكيات إنني أعمل طوال الشتاء بصبرٍ وثقةٍ وحب وشيء واحديستولي على ذهني: الوردة يلسعني المطر وتعريني الريح من أوراقي ويسحقني الثلج، لكن شيئاً واحداً يظل مستولياً على ذهني: الوردة هذا هو سّري ياأخواتي..".
كي يستمر الواحد منا في الصعود كما يُحبّ أن يسميه الكاتب لابد أن ينظر إلى نفسه بمعرفة وتواضع لأن ذلك الذي يعتقد أنه على القمة لن يتقدم أبداً إلى الأعلى . لنسمعه يُقارن نفسه مع صديق شاعر عاش معه طويلاً ،يقول" .. كنتً خالياً من السذاجة وغير واثق من أي شيء،لم أولد أميراً، ولكنني كنت أجاهد كي أصبح أميراً، أما صديقي فلا شك أنّه وُلد أميراً وليس عليه أن يُعاني، وأن يُكافح كي يصبح أميراً وليس عليه أن يتوق إلى القمة، طالما أنّه كان واثقاً أنه قد وصل إليها. كان مُقتنعاً أنه فريد من نوعه، ولن يتنازل لمقارنة نفسه بأي فنان آخر حيّاً كان أم ميتاً،وقد منحته هذه السّذاجة قوّة وثقة في النفس عظيمتين".
في داخل كلِّ إنسان مُتكامل،مركز غامض يدور حوله كلُّ شيء آخر، وهذا الدوران الغامض يوّحد بين أفكاره وأفعاله ويُساعده في العثور علىالانسجام الاجتماعي أو اختراعه. .هذا المركز بالنسبة للبعض هو: الحب ولآخرين هو: الجمال ولغيرهم هو: المعرفةوالتعطّش إليها، ولغيرهم: الذهب أو السلطة.. إنّهم يفحصون القيمة النسبّية لكل شيء وفقاً لهذه العاطفة المركزية ويالتعاسة الإنسان الذي لا يُحسَّ نفسه محكوماً في داخله من قبل سلطان مُطلق فحياته غيرُ المحكومة والمشوشة تبعثرها الرياح الأربع.
يقول كازانتزاكي:" كان الأمر الهام بالنسبة لي، أنني يجب أن أجد أوأخلق) هدفاًمُنسجماَ مع نفسي ذاتهاوباتباعه أستطيع إثارة إمكاناتي ورغباتي الخاصةإلى أقصى حدٍّ ممكن وعندها أخيراً سأكون مُتعاوناً بانسجام تام مع كلّية الكون..".
كنتُ أعتبر الأمل الميتافيزيقي طعماً مُغرياً، لايتنازل الناس الحقيقيون لقضمه،كنتُ أريد كلَّ ما هو أكثر صعوبة:" الإنسان الذي لا يئن ولايتراجع ولا يمضي مُتسولاَ راجياً . الإنسان الحقيقي ليس غنمة وليس كلب حراسة، أو ذئباً أو راعياً،إنه مَلِك يحملً مملكته معه ويتقدم .
ما أجمل أن تكون حيّاً ومعك حواسك الخمس الأبواب الخمسة التي يدخل العالم منها- وهي تعمل بشكل جيد:
ما أجمل أن تقول:" إن العالم جميلٌ ،وأناأحبّه..إن أثمن الغنائم العقلية التي حصلت عليها في بلدي هي أنني أدركت بأن عظمتها ليست في الجمال بل في الكفاح من أجل الحرّية لم يكن جمال بلادي هوالذي دلّني علىالطريق،وأدخلني في الرجولة بل المسؤولية . تلك هي الثمرةالمرّة التي كنتً أمسك بها في يدي وأنا أدخل بيت أبي بعد عودتي من رحلة الأشهر الثلاثة في ربوع بلادي،رجعتً وصرختُ بثقة،" أين أجدُ روحاً عنيدة بألاف الجروح مثل روحي كي تستمع لاعترافي؟ بهدوء وإشفاق، أعتصر كمشةً من التراب الكريتي في راحتي كنتُ أحتفظ بهذه التّربةدائماًخلال تجوالي وأنا أضغطها في كفّي لحظات الألم العميق،فأستمد منها القوةالعظيمة كأنّني استمدها من الضّغط علىيد صديق حبيب وغالٍ، هذه التربةهي ما كنته دائماً وأبداً وهي ما سأكونه دائماً وأبداً..
هذاماقاله كازانتزاكي عن كريت).
أما ما قاله عن قريته الصغيرة ميغالوكاسترو) فكان رائعاً يتفجر بالنّاس الحقيقييّن حتى يكاد المرء يتحسّسهم على وشك الخروج من بين سطور الصفحة تقريباً علىحد تعبير كولن ولسون).
هؤلاء ... علّموني :
إن مايبقى خالداً في نفسي معلم الصف الأول الذي كنتً أنظر إلى أسلوبه والعصامعه علىأنه همجي، ولكن بعد أن عرفتُ الطبيعة البشريةبشكل أفضل باركتُ عصا المعلم المقدّسة فهي التي علّمتنا المعاناة، هي المرشد الأعظم في ذلك الصعود الذي يقود من الحيوان إلى الإنسان، وبقي كذلك خالداً في نفسي والدي يوم أن هبّت عاصفة عاتية في الصيف ذهبت بعنب بلدنا ومؤونة الشتاء وبكىالناس واستنجدوا لكن والدي قال: عندما قُلت لنذهب معهم:" لم نذهب اخرس، لم أنسَ هذه اللحظة طوال حياتي وأعتقد إنها نفعتني كدرس عظيم في أزمات حياتي.. كنتُ دائماً أتذكره وهو واقف بهدوء دون حراك على العتبة دون أن يلعن أو يتوّسل أو يبكي .. بلا حراك كان يقف يرْقب الخراب وحده، بين الجيران، ظلّ محافظاً على كرامته البشرية..".
يُقال إن الإنسان هوالحيوان الوحيد الذي يفكر في الموت.. " لكنني أخالف هذا الرأي،لا .. الإنسان هو الحيوان الذي يفكر في ديمومةالحياة..".
"لقد سجنتُ الموت" هكذا قال جدّي!!
قلت كيف حققّت ذلك، قال: " بعدم خوفي منه"..
صحيح أننالا نستطيع أن نقهر الموت إلاّ أننا نستطيع أن نقهر خوفنا منه.. هكذا يقول الجبلي الذي وسعّت التلال روحه وحصّنتها..
"تعلمتُ من شيخ كان يعظ الشباب ليبعث فيهم الشجاعة حدقوا في الخوف، في عينيه تماماً، إذا استطعتم عندها فإن الخوف سوف يّولي هارباً".
وتعلمت من سمكةرأيتها بين أسماك عديدة كانت تلعب في الماء، سمكة نشرت زعانفها بغتةً وقفزت خارجة من الماء لكي تتنفس الهواء، رأت في نفسها قدرة أكبر من أن تعيش في الماء، تاقت لأن تتعدّى حدودها وتصبح عصفوراً ولو لوهلةٍ قصيرةٍ هذه الوهلة عندي هي الأبدية،رأيت فيها كريت بلدي السمكة التي تقفز لكي تتجاوز الضرورة وتتنفّس الحرّية.."
سأظل كشجرة تهب عليها الريح ،ويسقط عليها المطر والشمس وسأظل أنتظر بثقة ،فساعةُ الإزهار والإثمار التي يطول انتظارها لابدّ أن تأتي ..
وقد لخص كازانتزاكي) رحلته الفكرية بكلمات وردت في مذكراته الطريق إلى غريكو)
"... أنامثل الحكيم الصّيني القديم بدوتُ وكأنني ولدتً أشيب عجوزاً مقعداً بلحيةٍ بيضاء كالثلج، ومع مرور السنين صارت اللحية شهباء،ثم راحت تسّودُ تدريجياً ثم تساقطت، في سنوات شيخوختي انتشر زُغب ناعم دقيق علىخدّي، لم يكن شبابي إلاّ مجموعة من المُقْلقات والكوابيس والتساؤلات وسنوات نضجي لم تكن إلا إجابات متعّثرة.
كان شبابي ورجولتي يدوران حول قطبي الألم والأمل ،لكنني الآن في شيخوختي أقف أمام الهاوية هادئاً ودون خوف لم أعد أذل نفسي .. أعرف تماماً أن الموت اللامرئي قادمٌ لامحالة،وأعرف كذلك أن قيمة الإنسان لا تكمن في النّصر، بل في الكفاح من أجل النّصر